منذ أكثر من مائة عام أرسل أحد زعماء الهنود الحمر إلي كلية فرجينيا ردا علي المنح المجانية التي تعرضها علي أبناء القبيلة خطابا عبر فيه عن اعتزازه بثقافته وفخره بنشر التعليم بطريقته. الخطاب عبر فيه الرجل باقتدار عن أحلامه, قائلا: يا أصحاب الحكمة يجب ألا تثيركم أن تكون أفكارنا حول التربية مختلفة عن أفكاركم, فنحن لدينا الخبرة في هذه التربية, فالكثير من شبابنا كانوا ينشأون في السابق في كليات المقاطعات الشمالية, وكانت تدرس لهم موادكم, لكنهم كانوا يرجعون إلينا وكنا نجدهم سيئين وعدائيين وجهلة بكل سبل العيش, ولا يصلحون كصيادين أو مستشارين.. وسوف نكون أكثر امتنانا إذا أرسل لنا السادة المحترمون من فرجينيا بعض أبنائهم لكي نعتني بتربيتهم, وندرس لهم كل ما نعرفه ونصنع منهم رجالا. المعاني التي حواها هذا الخطاب كبيرة وذكية, فقد رفض زعيم الهنود الحمر أن يتعلم أبناء قبليته بلغة غير لغتهم, يتشربون قيما غير قيمهم, يؤمنون بعقيدة غير عقيدتهم, يتبعون نظم حياة غير حياتهم, ينتمون لوطن غير وطنهم. لقد أدرك الهنود بالفطرة والخبرة خطورة أن يتعلم أبناؤهم في نظم تعليمية أجنبية. وذلك لأن الدور الرئيسي التي تقوم به النظم التعليمية هو دمج الفرد مع مجتمعه, أو وسطه البيئي متشربا بعقيدته وقيمه سالكا عاداته متكلما لغته مستجيبا لمتطلباته ومتكيفا مع أعرافه ونظمه, وإذا لم تحقق النظم التعليمية هذا تعتبر تربية فاشلة حتي وإن كانت لأعظم دول العالم وأكثرها تقدما, فكل مجتمع يحتاج إلي أفراد بمواصفات تختلف عن أي مجتمع, وهذا يعني أن أي تطوير للنظام التعليمي يجب أن يأتي من متغيرات ظروف المجتمع وانطلاقا من ثوابته, وهو ما أشرت إليه مررا وتكرارا, وأنا أتحدث عن مخاطر التعليم الأجنبي منذ عام2005, كما حذر التربويون من خطورة تعدد الأنظمة التعليمية الأجنبية, والتي تمثل بيئة دخيلة علي المجتمع المصري مما يؤدي بالتبعية إلي وجود انماط ثقافية مشوهة ومع ذلك ظلت وزارة التربية والتعليم تمهد الطريق أمام أصحاب رؤوس الأموال لإنشاء مدارس تقوم بتدريس المناهج الدولية, مما ساعد علي انتشار المدارس, الأمريكية والانجليزية والألمانية والكندية والفرنسية وأخيرا التركية. كنت أنتظر بعد قيام الثورة وتولي الحكم تيار إسلامي أن يتغير توجه وزارة التربية والتعليم بالنسبة للمدارس الاجنبية ولكن المفاجأة كانت صادمة بالنسبة لي, فمنذ أن تولي الدكتور إبراهيم غنيم وزارة التعليم وبعد شهر من تولي المهندس عدلي قزاز- وهو( من أصحاب المدارس الدولية) منصب مستشار وزير التربية والتعليم لتطوير التعليم, قدمت الوزارة الكثير من التسهيلات للمدارس الدولية, بداية من تقنين أوضاع عدد كبير من المدارس التي فتحت اقساما دولية, وتم رفضها في الوزارات السابقة, ثم التوسع في منح تراخيص بالانشاء. وفي فترة لاتتعدي شهرا أصدر وزير التربية والتعليم تراخيص لخمس مدارس دولية جديدة, تتنوع ما بين بريطانية وألمانية وأمريكية. ويجب الإشارة إلي أن هناك تطورا ملحوظا بهذا الصدد, حيث أطلقت علي المدارس الدولية( مدارس تقوم بتدريس مناهج خاصة), كما لوحظ إضافة كلمة اسلامية, فمعظم المدارس سميت بالمدارس الدولية الإسلامية! والحقيقة أنني لم أكن أتصور أن التناقض يصل إلي هذا الحد, فالتيار الذي أصر علي كتابة نص في الدستور عن تعريب العلوم هو الذي يدعم التوجه للتوسع في المدارس التي تقوم بتدريس مناهج أجنبية, ويقدم لهم مزيدا من التسهيلات, بل إنه يضع الخطط المستقبلية من أجل التوسع في هذا النوع من التعليم علي اعتبار انه تعليم المستقبل. لقد كنا ننتظر من وزارة تأخذ من الإسلام شعارا, وتعريب العلوم هدفا, أن ترسل خطابا إلي كل المدارس الدولية التي تربي ابناءنا علي مناهج أجنبية في مصر علي غرار ما كتبه زعيم الهنود الحمر. السادة المحترمون نحن لدينا مشروع تربوي سوف يجعل من نظامنا التعليمي نظاما دوليا, فنحن لسنا في حاجة للاستعانة بمناهج اجنبية قد لا تتلاءم مع مجتمعاتنا وتوجهاتنا وقيمنا, وسوف نوافيكم قريبا بخطتنا. هذا ما كنا نتوقعه, لا أن يضاف كلمة إسلامية الي دولية كجواز مرور, هل هذا هو التطوير, وهل هذه هي النهضة التي كنا ننتظرها! وهنا يطرح السؤال نفسه, إذ لم يكن معظم مستشاري الوزير من أصحاب المدارس الخاصة والدولية, هل كان سيختلف توجه الوزارة؟. لمزيد من مقالات د. بثينة عبد الرؤوف رمضان