ألا يجب علي الفرقاء السياسيين المتشاكسين مراجعة ومدارسة أصولهم الفكرية معا بطريقة هادئة؟ وهل ينأي رموز وشركاء الثورة بأنفسهم عن الغيرة السياسية والأفكار المعلبة المسبقة عن بعضهم؟ أما حان الوقت للتوقف عن الصخب الإعلامي والتهييج والشحن الإثاري والشيطنة المتبادلة؟ ألا ينتبه الجميع لأكمنة مقدمي برامج صراع الديكة, وأساليب صحافة الإثارة, وفرقعات وغش زوايا التصوير الضيقة في بعض الفضائيات؟. متي يرعوي إعلام أصحاب رؤوس الأموال المحلية المنهوبة؟ هل يعترفون بعد كل معاركهم بأنهم لن يفلحوا في إسقاط أول رئيس مصري انتخبه الشعب بحرية كاملة وبلا تزوير؟ ومن العار أن يسود بين بعض فصائل الثورة منطق عدو عدوي صديقي, والتفكير تحت الأقدام. أتاحت بعض الفصائل أن يطل كبار وصغار مجرمي الفلول ليضربوا الثورة تحت الحزام وفوقه. مهما تكن الخلافات الأيديولوجية فلسنا أعداء, ولكننا متدافعون متنافسون في خدمة الوطن, وفي قطع دابر نظام المخلوع وعصاباته. كما أن أعمال الإجرام والعنف ضد المواطنين والمرافق العامة والممتلكات الخاصة تستوجب وقتا مستقطعا فوريا للمراجعات الفكرية. بعض الأيديولوجيات تؤسس وتفلسف وتحبذ العنف طريقا للتعامل مع الخصم السياسي. ليت الجميع يثوبون إلي الرشد الفكري بالعودة إلي فحص وتقويم كل أصولهم الأيديولوجية. ليبادر كل فريق وأولهم الفريق الأكثر قواعد وتنظيما بالدعوة إلي هذا النوع من جلسات المراجعة الفكرية العاجلة. السلطة والحكم ليسا كعكة ولا مكافأة يتهالك عليها الجميع بهذا القدر من العنف والدماء والشتائم والفحش. الأجيال القادمة والتاريخ والشعوب المحيطة سيلعنوننا علي هذا الصراع الدامي. تيارات الحكم والمعارضة بأطيافها كافة مطالبون بإذابة الجليد الأيديولوجي فيما بينهم, ولهذا أتخيل نفسي عدت هذا الأسبوع إلي زيارة بلطيم في محافظة كفر الشيخ, كما فعلت ذات يوم من عام.1995 كأني بالقيادي الإخواني المهندس محمد عامر يدعوني لأشهد استجابة قريبه القيادي الناصري حمدين صباحي للدعوة كضيف علي أسرة عامر الإخوانية. وكأني بالزميل صباحي يجلس في هذه الأسرة, ويسمع ويناقش الإخوان بمرجعيتهم الفكرية برغم مشاغله السياسية. أراهم يقرأون معا ما يتيسر من سور أو آي القرآن الكريم. ربما تكون سورة الأحزاب الأنسب للظرف الحالي. أراهم يراجعون تفسيرها من ابن كثير. يتفقد أعضاء الأسرة أخبار وأحوال بعض, وأحدث وأهم التطورات في بلطيم وفي المحافظة وفي مصر الثورة, وفلسطين المجاهدة, ومآسي ضحايا نظام مجرم سوريا. ولا تنسي الأسرة الإخوانية أخبار الاضطهاد الممنهج الذي يتعرض له مسلمو ميانمار. يضع المتناقشون ما يجري علي مسطرة أو معايير أصولهم الفكرية والأيديولوجية, ولا أشك أن ناصريا واحدا يرفض الاحتكام إلي ثوابت الإسلام وبالذات في أوقات عصيبة كالتي تمر بها البلاد. وبعد عشاء خفيف يدعو الجميع لصاحب البيت ولأنفسهم ولذويهم ولمصر والأمة. وقبل الانصراف يوجه الإخوان الدعوة عبر حمدين إلي رمز آخر يرشحه من حكماء تياره الأيديولوجي كي يشاركهم أمسية إخوانية تالية. بالمناسبة المهندس محمد عامر كان تنازل لحمدين عن الترشح في انتخابات برلمان95 حرصا من الإخوان علي المشاركة لا المغالبة, وهو ما فعلوه بعد الثورة بترشيح رموز ناصرية ومسيحية علي قوائمهم. أذكر أنني ذهبت ضمن وفد نقابي ضم الصحفي الإخواني الكبير عبد المنعم حسين سليم لتأييد زميلنا المرشح الناصري حمدين. ليس المقصود من حلم اليقظة أو التفكير التمنياتي هذا, الأخ حمدين لشخصه, إذ يمكن توجيه الدعوة لضياء رشوان أو حسين عبد الغني أو يحيي قلاش مثلا. ولن أبالغ إذا جمحت وطرحت أسماء كصلاح عيسي أو حسين عبد الرازق, ومن الأجيال الجديدة أحمد ماهر أو ياسر عبد العزيز مثلا. أترك لخيالي العنان فأنتظر رد التيار الناصري القومي واليساري علي الدعوة الفكرية التناقشية فتتلقي قيادات إخوانية وإسلامية حركية وفكرية كعصام العريان أو جمال حشمت أو د. محمد عمارة أو د. معتز عبد الفتاح أو د. محمود خليل,( أو جهاد حداد وأحمد عارف من جيل الشباب). أتمني أن تأتيهم دعوة لحضور خلية أو مجموعة ناصرية أو يسارية, تليها عزومة مسرحية أو رحلة ترفيهية أو معسكر تثقيفي. يتناول الحضور تاريخ الحركة القومية أو حديثا عن تطور فكر ميشيل عفلق قبل وفاته, أو دراسة الميثاق وفلسفة الثورة كوثيقتين تاريخيتين في سياقهما الوطني. لا أدري لماذا تلح علي هذه الأيام واقعة زميلة يسارية وقفت للراحل عبد الوهاب المسيري تلعن في الإسلاميين أو المتأسلمين كما يحلو للبعض نعتهم, فما كان منه رحمه الله إلا أن نهرها قائلا: كفاية... اجلسي, لقد كنت أقول فيهم مثلما تقولين وأكثر وأنا في مثل سنك. ومازلت أذكر مقالا كتبه أحد كبار كتاب مركز الدراسات السياسية في هذه الصحيفة. الرجل, متعه الله بالصحة, أخبر قراءه بأنه رفض تلبية دعوة جهة أجنبية عندما اكتشف أنه سيكون موضوعا لدراسة حالة. الكاتب الكبير كان في شبابه منتميا للإخوان فكريا, ثم عدل عن ذلك منذ أواخر الخمسينيات أو أوائل الستينيات, لكنه لا يفحش ولا يلعن خصومه الفكريين. ورحم الله الكاتب الأهرامي اليساري البرجوازي النشأة محمد سيد أحمد, فقد سمعته بأذني يثني بكلمات الاحترام علي عقليات نقابيين ونشطاء إسلاميين. لمزيد من مقالات حازم غراب