تعيش مصر أزمة شاملة تتفاقم أسبابها ومخاطرها; دون وعد بتوافق وطني علي حلها. وفي تشخيص جوهر الأزمة حيث تكمن بداية حلها; أري سبب الأسباب دون ريب في مشروع الأخونة والتمكين لإعادة بناء الدولة والمجتمع والاقتصاد والثقافة في مصر وفق رؤية شمولية وإقصائية. وقد بدأت الأزمة الممتدة, منذ غزوة صندوق الاستفتاء علي التعديلات الدستورية, مع خديعة أن( نعم) وخريطة طريق تبدأ بالانتخابات تصويت للإسلام, بينما( لا) وخريطة طريق تبدأ بوضع الدستور تصويت ضد الإسلام!! ثم توالت غزوات صناديق انتخابية, تواصلت معها خديعة تعد الموالين بالجنة وتتوعد المعارضين بالنار!! لكن مصر لم تشهد استقرارا رغم انتخاب برلمان إخواني مع إخلافهم وعد مشاركة لا مغالبة, وبعد انتخاب رئيس إخواني مع حنثهم بعهد عدم الترشيح!! وقد ذهبت سكرة مخادعة وجاءت فكرة معارضة جماعات من الشباب والنخبة, ثم هبت الملايين بميدان التحرير وأمام القصر الجمهوري وفي ربوع مصر ضد إصدار الرئيس( الرباني) الإعلان الدستوري المستبد والمنعدم, وتفاقم عدم الاستقرار بعد تمرير الإخوان وحلفائهم دستورا غير توافقي ومعيبا. والأمر أن مشروع الجماعة والتمكين لفرض مشروع التمكين الشمولي الإخواني لم يستوعب حقيقة الأمة المصرية لم تقبل أن تحكم وأن تدار أمورها بأساليب القهر والذل, ولم تقبل باستمرار أوضاع الفقر والظلم, التي ثارت عليها, والتي يكرسها مشروع التمكين. فهذا المشروع يهدر فرصة بناء دولة المواطنة, دولة كل المصريين, التي تحمي جميع حقوق المواطنة والإنسان, السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها دون تمييز أو إقصاء, وتتوافق مع مقاصد الإسلام بأكثر من مشروع التمكين, الذي يتمسك بالمظهر علي حساب المقصد. ومع إخفاقات حكم الإخوان تجلي أن الإستئثار بالسلطة بمنافعها, وليس التقرب الي الله والزهد في الدنيا, هو ما يحكم فكر ونهج مشروع التمكين. وبدا ما وصف بهتانا بالمشروع الإسلامي مضادا لغايات ثورة يناير وأسس دولة القانون وقيم المجتمع الديمقراطي وركائز دولة المواطنة والمصالح الوطنية العليا, بل ومخالفا لروح وخلق ومقاصد وقيم ومباديء الاسلام. وهكذا, جاءت الثمار المرة لمشروع التمكين مجسدة في الأزمة الشاملة الراهنة, التي أضرت بجماعة الإخوان ومصداقيتهم وشعبيتهم رغم اتساع رقعة حكمهم, وأهدرت فرص التقدم صوب التوافق السياسي الوطني وتحسين الوضع الاقتصادي وتطبيق العدالة الاجتماعية وتعزيز الوحدة الوطنية!! فقد توهمت جماعة الإخوان أنها أمام فرصة تاريخية استثنائية لاختطاف ولاية مصر وإعادة بنائها; ليس لتنفيذ مشروع النهضة, الذي تأكد غيابه, وإنما لفرض مشروع التمكين. وفي هذا السياق احتدم التناقض الرئيسي المجتمعي بين مشروع دولة المواطنة الديمقراطية ومشروع دولة الإخوان الشمولية, وهو ما يجسده الانقسام الراهن وغير المسبوق تاريخيا للأمة المصرية. وأما مشروع الأخونة والتمكين, إذا نفضنا عنه ما يغلفه من لغو الحديث عن مشروع إسلامي, فانه لا يعد بغير إقامة نظام شمولي; ينطلق فكريا من ميراث انحطاط إحلال النقل محل العقل في تاريخ المسلمين, ويستهدف سياسيا إقصاء الآخر وتعميم استبداد السمع والطاعة, ويتنكر وطنيا لمصر والأمة المصرية بترويج وهم إحياء الخلافة, ويتبني اقتصاديا واجتماعيا نظام السوق الحرة الفاشلة والظالمة تحت عمامة رأسمالية تجارية ملتحية ومتخلفة وتابعه, ويقوض ثقافيا حرية الإبداع والتسامح الديني وتمكين المرأة وخلق الإسلام!! وبغية الإفلات بولاية مصر, التي توهموها أسيرة أبدية لهم, سعت الجماعة الي تطويع وتركيع سلطة الدولة من جيش وشرطة ومخابرات وقضاء, وترهيب وتقييد وسائل الإعلام والجمعيات الأهلية والتنظيمات النقابية وأحزاب المعارضة!! بل وتوعد حلفاؤها ورموزها بتقويض مؤسسات الدولة والمجتمع المدني لبناء دولة طغيان علي خطي ولاية الفقيه الإيرانية; في عجلة يحركها وهم يفوق قدرات الجماعة وحلفائها!! وليس في القول بمشروع الأخونة والتمكين أي افتراء, بل يؤكده مرشد الجماعة السابق الشيخ مهدي عاكف, الذي قدم, باستقامة لا يحسد عليها, رؤية غير مراوغة للمشروع. فكيف تنسي كلماته المذهلة: طظ في مصر, ولا غضاضة أن يحكم مصر مسلم من ماليزيا, وطظ في الذين يهاجمون الإخوان لأنهم يهاجمون الإسلام؟! وكيف يفهم إعلانه: أن أنصار الاخوان سيضربون بالجزمة من يهاجمهم اذا وصلوا للحكم؟! وماذا تعني تصريحاته: لا أحترم الاثني عشر مليونا الذين انتخبوا الفريق شفيق لأنهم فلول الدولة العميقة؟! ويجب أن نتعبد إلي الله عن طريق الامتثال لقرارات الجماعة؟! وهل يمكن إنكار المشروع وقد أعلن: إن زمن الإخوان لم يأت بعد, ولكن عندما يكون الرئيس ومجلسا الشعب والشوري والمحافظون والوزراء إخوانا يمكننا القول إننا في زمن الإخوان; وأن أخونة الشعب شرف عظيم؟! ويزعم الإخوان أنهم لم يسرقوا الثورة, وبدونهم لم تكن لتنجح, بل هم أصل الثورة!! ولا جدال أن الجماعة, وإن التحقت متأخرة بالثورة وبعد التبرؤ من مفجريها, قد ساهمت في إسقاط حكم مبارك. لكنه فور أن لاحت صفقة تمكينها من المشاركة في الحكم بدأت مسعاها لتحويل ثورة يناير الوطنية الديمقراطية الي ثورة دينية إسلامية. وهكذا, رفع الإخوان وحلفاؤهم هتافات إسلامية.. إسلامية, وارفع رأسك فوق أنت مسلم!! منذ ما سمي بجمعة قندهار الأولي; في مواجهة شعارات عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية, وهتاف ملايين المصريين صانعي الثورة, بتنوعهم الطبقي والسياسي والديني: مدنية.. مدنية.. وارفع رأسك فوق أنت مصري; فقادت جماعة الإخوان الي الأزمة الراهنة, التي تفاقمت أكثر بعد أن حسم الرئيس المنتخب لصالح الجماعة صراعها علي السلطة مع المجلس العسكري بشأن من تكون له اليد العليا. ولا أري مخرجا من هذه الأزمة بغير إعلان حل جماعة الإخوان, وترك جمعيتهم العمل السياسي لينهض به حزب الحرية والعدالة, وتخلي الإخوان وحلفائهم عن وهم مشروع الأخونة والتمكين والمشاركة في مواجهة الأزمة المحتدمة وفي بناء دولة المواطنة, التي لن تعرف يقينا إقصاءهم أو حلفاءهم. وللحديث بقية. لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم