لم تشهد مصر استقرارا سياسيا وأمنيا واقتصاديا رغم انتخاب الرئيس وإقرار الدستور. وتتحمل جماعة الإخوان المسئولية الأولي عن عدم تحقيق الاستقرار, لأنها لم تستوعب حقيقتين: الأولي, أن الثورة تعني أن الأمة المصرية لن تقبل أن تحكم وأن تدار أمورها بأساليب القهر والذل, ولن تقبل باستمرار أوضاع الفقر والظلم, التي ثارت عليها. والثانية, أن الاستقرار لا يتحقق بغير التوجه نحو بناء دولة المواطنة, دولة كل المصريين, التي تستمد شرعيتها من حماية حقوقهم, السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها, دون تمييز أو إقصاء. وبغير استيعاب أن دولة المواطنة هي عنوان إنتصار الثورة وسبيل الاستقرار, كان منطقيا أن تدخل مصر نفق انقسام الأمة وتداعي الإقتصاد وإنفلات الأمن وعنف الاحتجاج; من حيث لم يحتسب المصريون بعد مأثرة ثورتهم فريدة المثال. وكان طبيعيا أن تستمر وتتفاقم الإخفاقات التي فجرت الثورة تحت السلطة الإخوانية المنتخبة, بإهدارها للفرصة التاريخية الاستثنائية التي صنعتها الثورة لبناء دولة المواطنة. وقد يسأل سائل: وهل كان يمكن بلوغ هذا المثل الأعلي المنشود إلا عبر طريق طويل وشاق؟ وإجابتي بالنفي قطعا. لكنني أسأل بدوري: وهل يحمل فكر ونهج وحكم الإخوان وعدا بأن هذا المثل الأعلي في سبيله الي التحقيق؟ وإجابتي بالنفي أيضا. وأعلن أولا, أن جماعة الإخوان قد أخفقت حين تصورت أن استخدام آلة العنف المفرط يمكن أن تحقق إستقرارا أمنيا, وتوهمت أن خطف دستور غير توافقي يمكن أن يحقق استقرارا سياسيا, وتخيلت أن الشباب الغاضب يمكن أن ينصرف الي بيوته بغير قصاص لشهدائه واستجابة لمظالمه, وقدرت أن تبني أجندة السوق الحرة- الفاشلة والظالمة- يمكن أن يحقق استقرارا اقتصاديا واجتماعيا, وتخيلت أن العدوان علي استقلال القضاء يمكن بغير تقويض هيبة الدولة وسيادة القانون, وظنت أن استهداف حرية التعبير والصحافة والإعلام يمكن بغير هدر كل الحريات, وحسبت أنه بغير إصدار تشريع للعدالة الانتقالية يمكن نزع فتيل نزعات الانتقام المتبادلة.. إلخ. وثانيا, أن خديعة تطبيق الشريعة من أجل انتزاع السلطة ومنافعها, لم تكن سوي وأد لمفهوم دولة المواطنة; تجلي في سعي جماعة الإخوان وحلفائها لإقامة دولة الفقهاء; حيث تكون فتاواهم هي المفسرة للدستور فوق المحكمة الدستورية العليا, وهي المقررة للتشريع فوق السلطات الدستورية المنتخبة, وهو ما نص عليه دستورهم; بإضافة مادة تفسير مباديء الشريعة, ومادة مرجعية الأزهر وإن مرحليا حتي يختطف!! كما تجلي في السعي لإقامة دولة الخلافة; حيث المصريون في الدستور مجرد جزء من أمة إسلامية, وينكر حقيقة الأمة المصرية, أعرق الأمم, والتي تملك كل مقومات الأمة; فلا تصبح مصر للمصريين ودولة ذات سيادة, وإنما مجرد ولاية تابعة لخلافة, قد تكون القدس عاصمتها, وقد يكون خليفتها من ماليزيا!! وهو وعد لا يحمل خيرا لمصر والمصريين كما يكشف معظم تاريخ مصر الإسلامية. وثالثا, أن الديمقراطية تعني تداول السطة, وقد تتعاقب عليها أحزاب وتيارات فكرية وسياسية ليبرالية أو ناصرية أو إشتراكية, أو أحزاب ذات مرجعية تعلي مقاصد ومباديء وقيم الإسلام, لكل برامجها, التي قد تتبني رؤي وأنظمة, اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية, متباينة. لكنه علي أي حزب وتيار فكري وسياسي, يصل الي السلطة عبر انتخابات نزيهة بالمعايير الدولية, أن يحترم جميع حقوق المواطنة والإنسان للمصريين, وأن يحمي حق الأمة المصرية في اختيار, وإعادة اختيار, الحزب أو التيار أو النظام الحاكم. وهذا ما يتوجب أن ينص عليه دستور دولة المواطنة, الذي يرفع راية الأمة المصرية, التي لا تنفي حقائق عروبة لسانها وإسلام غالبيتها, ورسالتها الإنسانية منذ رفعت شعلة الحضارة والضمير من فجر التاريخ. ورابعا, أن تكلفة بناء دولة المواطنة تقل بامتلاك النخبة السياسية, الحاكمة والمعارضة, رؤية شاملة وواضحة لهذه الغاية, وخريطة طريق اليها تتجنب الشراك الخداعية, وبرنامج عمل استيعابي يبني أوسع وفاق وطني. وبشأن المعارضة, لا أري أن جبهة الإنقاذ الوطني تعبر عن تحالف قائد للثورة, وإنما قوي ديمقراطية ووطنية ومدنية; يجمعها تحالف مؤقت أو تكتيكي مبعثه تناقضها الرئيسي مع فكر ونهج وحكم الإخوان, ولا تنتصر بجلاء لبناء دولة المواطنة, ولا ترفع عاليا راية الأمة المصرية. ولا تختلف عنها في هذا الصدد- رغم مزاعم دفاعها عن مدنية الدولة- الأحزاب التي خرجت من عباءة جماعة الإخوان, مثل الوسط ومصر القوية والتيار المصري, وإن كانت أقرب لإعلاء مقاصد الشريعة ومعارضة حكم الإخوان, باستثناء حزب الوسط المؤازر لنهج وحكم الجماعة!! وخامسا, أن مصر لن تستقر بغير أن ينطلق الرئيس المنتخب من التفكير في المصالح العليا للأمة المصرية; واعتبارها عنوان الهوية والولاء والانتماء, وبغير أن يعلي راية دولة المواطنة; بوصلة الاستقرار وبناء نظام يتمتع بالشرعية, بقدر ما ينال المصريون, أو يرون أنهم في سبيلهم لنيل, حقوق المواطنة. ويتطلب الاستقرار أن يتحالف شباب الثورة مع جبهة الإنقاذ; وأن يدركوا أنه ليس ثوريا من لا يعرف المساومة في التحالفات العملية دون أن تغيب عنه الغايات النهائية, وأن يلتزموا بمباديء وثيقة نبذ العنف, دون إغفال أنها في المنطوق به لم تحمل الحكم المسئولية الأولي عن العنف!! وفي المسكوت عنه تجاهلت الأسباب المولدة للاحتجاجات العنيفة, وأن يدركوا أن عدم عزلتهم جماهيريا رهن بالتزامهم بضوابط حرية التعبير في مجتمع ديمقراطي, حيث بوصلة تأييد أو معارضة الرئيس المنتخب هي احترامه أو إهداره لحقوق المواطنة. وأخيرا, أظن أن الحوار الوطني الجاد والمثمر يتطلب اتخاذ الرئيس ما دعت اليه جبهة الإنقاذ من إجراءات لبناء الثقة, وإدراكه أنه لم يعرف بلد كمصر يسرع إليه الخراب إذا ساءت إدارته. ولن يتحقق الاستقرار باستمرار نزعات جماعة الإخوان للإقصاء والاستعلاء والتخوين والتهديد, وتغيير توجهاتها وسياساتها المهدرة لدولة المواطنة, شرط تحقيق وحدة المصريين الوطنية. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم