ركبت السلطة التنفيذية رأسها وسارت خطوة بعد خطوة فوق صفحات القانون الممزقة منذ الإعلان الدستوري المشئوم في21 نوفمبر الماضي, وزادت الحصار التحصيني الذي وفره ذلك الإعلان بحصار انكشاري حول أسوار المحكمة الدستورية علي مرأي ومسمع العالم كله, بحيث تعين علي قضاتها الأجلاء أن يدخلوها خفية متسللين.. ثم عاجل السيد الرئيس أنصاره ومعارضيه بمفاجأة أخري حين وافق علي دعوة الناخبين إلي استفتاء علي دستور تم وضعه بليل حرفيا, حين سهر صناع الدستور ليلة ليلاء حتي الفجر كي يدبجوا نصوصا مبتسرة علي عجل, كان من الواضح أنها لن تصمد أمام أي اختبار قانوني حقيقي, وهو ما حدث بعد ذلك بالفعل, ولكن أهل الحكم واصلوا الطريق غير عابئين بصراخ الشارع أو المعارضة, وسارع مجلس الشوري الذي لم ينتخبه أحد لتولي سلطة التشريع كي يسن القوانين بنهم وسرعة كمن يأكل آخر زاده. وتمخض قانون الإنتخابات عن عوار كشفت عنه المحكمة الدستورية التي تم حصر دورها في الدستور الجديد علي الرقابة السابقة, ومرة أخري يناور أهل الحكم فلا يلتزمون حتي بما سطروه في دستورهم, ويسارع الرئيس بالدعوة إلي الانتخابات التشريعية, فإذا بالمحكمة الإدارية تلغي قرار الرئيس, ويدخل الرئيس موسوعة جينس العالمية في قراراته التي تم إلغاؤها حكما وفعلا, أو تم التراجع عنها بعد حين.. ورغم أن الرئاسة أعلنت وقتها أن الإنتخابات ستؤجل إلي حين إعداد قانون جديد, واحترامها لحكم القضاء الإداري مؤكدة أنها لن تطعن عليه. ومع ذلك, تراجعت الرئاسة وتم الطعن علي الحكم!!, قبل أن يجف مداد تصريحها الأخير.. ومع ذلك رأي كثير من المراقبين أن ذلك الحكم أعطي فسحة من الوقت لكل من الحكومة والمعارضة للتوصل إلي تفاهم معقول يضمن استقرار البلاد والعباد, خاصة أن هذا الموضوع كان من ضمن الموضوعات التي وقفت المعارضة ضدها بشدة وأعلنت مقاطعتها للإنتخابات. وأصدرت محكمة استئناف القاهرة الاربعاء الماضي قرارا يقضي بإلغاء قرار رئيس الجمهورية رقم683 لسنة2012 بتعيين المستشار طلعت إبراهيم نائبا عاما واعتباره كأن لم يكن, وهو أحد آثار الإعلان الدستوري المشئوم الذي تغول بشكل فاضح علي السلطة القضائية وأهدر مبدأ الفصل بين السلطات واستقلال السلطة القضائية. وفي تقديري يجب أن يمثل هذا القرار الأخير نافذة واسعة للأمل كي تخرج مصر من المأزق السياسي الذي تعيش فيه منذ شهور, والذي أثر علي الأوضاع الأمنية والإقتصادية في البلاد وأساء إساءة بالغة للثورة المصرية, حيث أن هذا القرار يمثل إزالة عقبة أخري في سبيل فتح بوابات القاعة الذهبية لحوار جدي بين جميع الفصائل والقوي السياسية لترتيب أولويات العمل الوطني المشترك خلال السنوات المقبلة. ورغم بعض البيانات والتصريحات من هنا وهناك والتي تحاول أن تثير الشبهات حول قرار المحكمة, فأنني أظن أن القضاء المصري الشامخ يقدم فرصة ينبغي ألا تفلت, ولو كنت من أهل الحكم لسارعت علي الفور بتنفيذ القرار دون تردد, مع مطالبة مجلس القضاء الأعلي بتحديد أسماء ثلاثة قضاة كي يختار الرئيس من بينهم النائب العام الجديد. هاهي الأقدار مرة أخري تفتح أمام الجميع بوابة للخروج, وليس مستغربا أن يكون القضاء المصري الشامخ هو اليد القوية التي فتحت هذه البوابة بأحكامها, فبعد أن تم تأجيل الإنتخابات البرلمانية, تتاح الفرصة لأهل الحكم أن يديروا حوارا مع جميع الفصائل والقوي السياسية من أجل صياغة قانون يليق بمصر ويرضي عنه الكافة, كما أن قرار إلغاء قرار تعيين النائب العام يسمح بمساحة من التفاهم بعد التصادم الشديد وانعدام الثقة التي تواكبت مع هذا التعيين, وأرجو ألا يسعي المستشار عبد المجيد محمود لإستعادة مقعده حتي ولو كان مقتضي قرار محكمة الإستئناف يتيح له ذلك, كما أرجو من المستشار طلعت إبراهيم أن يبادر بالعودة كريما إلي موقعه فوق منصة القضاء العالية دون تمسك بتلك الذرائع التي بدأ بعض الممالئين في نثرها دون أن يدركوا مدي الأذي الذي يلحقونه بمستقبل الوطن. لقد وقفت المعارضة المصرية بصلابة ضد الإعلان الدستوري المشئوم, وهي ترفض كل ما ترتب عليه من آثار, وعليها اليوم أن تبدي بعض المرونة علي ضوء هذين الحكمين التاريخيين للقضاء المصري بشأن الإنتخابات والنائب العام, مع تقديري لباقي الضمانات التي تطلبها وخاصة في تعديلات دستورية ضرورية وقصاص للشهداء, إلا أنه إذا التزم الجميع بحسن النية وبدأت إجراءات بناء الثقة مرة أخري, فلا أظن أن تلك القضايا سوف تعجز عقول الساسة المصريين, ولا أتصور أن مصريا خالصا رضع حب هذه الأرض الطيبة مع حليب الأم يمكنه أن يجرح كبرياء الوطن في هذه اللحظة الفارقة. أرجو وأتوقع أن يلتزم الرئيس وأهل الحكم بأحكام القضاء وأن يصدر قرارا بإقالة الحكومة الحالية ودعوة مختلف الفصائل والقوي للتشاور حول تشكيل حكومة جديدة بمهمة محددة تتضمن بالإضافة إلي الانتخابات القادمة مواجهة الأزمة الإقتصادية الحالية, وأن يتوقف سماسرة السياسة والقانون عن إضاعة الوقت الثمين في مهاترات لا طائل وراءها, وأن تعانق المعارضة هذه الفرصة السانحة, بأن تعلن بناء علي ذلك قبول بدء حوار يركز علي صياغة قانون الإنتخابات, وعلاج ثغرات الدستور الجديد, وعقد مؤتمر إقتصادي شامل يضم كل المخلصين من الخبراء لخطة إنقاذ عاجلة مع وضع ملامح خطوط استراتيجية طويلة المدي لتحقيق هدف الثورة في العدالة الاجتماعية. أعرف أن الشيطان يكمن في التفاصيل, ولكنني أري أنه بعد صرف عفاريت الإعلان الدستوري المشئوم يمكن أن نتغلب علي وساوس الشيطان بإنجازات سريعة متوالية في المصالحة الوطنية تعيد لحمة الأمل في عيون وقلوب أبناء شعبنا الطيب, وهذا وحده يحقق المعجزات, وقد تكرر ذلك في تاريخنا, ويكفي أن أشير فقط إلي تلك اللحظة العبقرية التي اجتمعت فيها مصر كلها علي قلب رجل واحد كي تعبر قناة السويس في قفزة شجاعة تمكنت فيها من هزيمة الهزيمة وإزالة آثار العدوان.. إننا في لحظة مشابهة بعد إزالة أهم آثار الإعلان الدستوري, وبقي أن نتوحد علي قلب رجل واحد.. لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق