{ أنا طبيبة في مستشفيات جامعة عين شمس في أواخر الثلاثينات وقارئة قديمة لبريد الجمعة منذ كنت في المرحلة الثانوية. أكتب اليكم ونحن علي مشارف عيد الأم فلا لأكتب عن نفسي ولكن لأحدثكم عن شخصية غالية علي قلبي وعلي قلوب كل من عرفها, أم ومعلمة حقيقية وأستاذة في الأدب والرقة والأخلاق الرفيعة, أثرت في من جميع الجوانب العلمية والأخلاقية والدينية, ومازلت برغم وفاتها منذ ثلاثة أعوام في فبراير2007 لا يمر علي يوم لا أتذكرها فيه وأدعو لها بالرحمة والمغفرة, هي أستاذة فاضلة في قسم الباثولوجيا الإكلينيكية في جامعة عين شمس( أ.د.سلوي أبو الهنا) عرفتها منذ كنت طبيبة مقيمة في القسم ثم اقتربت منها تدريجيا حتي توطدت صلتي بها, رأيت انسانة جميلة الروح, رقيقة الطباع, دمثة الأخلاق, تفيض بالنور علي من حولها ولا تفارقها الابتسامة, تبعث الأمل في المرضي وتمد لهم يد العون المعنوي والمادي, لا تبخل بجهد ولا وقت ولا مال, كانت من النوع الذي يغزو القلوب وكانت اسما علي مسمي, أفاضت علينا بعلمها الواسع الغزير, وتعلمت منها مكارم الأخلاق والتفاني والجد في العمل. رأيتها تعمل علي تطوير معمل مستشفي الأطفال وتقف بنفسها وسط المهندسين والعمال, تتابع وتهتم بكل صغيرة وكبيرة, وتسعي لتحطيم قيود الروتين والبيروقراطية بكل صبر وجلد, وقد جندت فريقا من العمل بثت فيه من روحها وحماسها, وسبحان الله الذي فتح لها القلوب وأجري الخير علي يديها, فقد تقدم لها أهل الخير لثقتهم فيها وانهالت التبرعات لتمد المكان بكثير من الإمدادات والأجهزة الحديثة, وتساعد علي توفير أفضل خدمة للمرضي, لقد قدمت الكثير وكانت تقوم بما ينوء عنه أولو العصبة من القوة, وليس ما ذكرته إلا مثلا من عديد يحتاج الي كتاب لذكره. رأيتها أيضا وقد جاءت إليها وفود من المرضي والمحتاجين لتمد لهم يد العون ولا ترد أحدا فينصرفون ولسانهم يمتلئ بالدعاء لها, كما استطاعت ان تجمع القلوب حولها كحبات عقد لا تنفرط, فقد كنا جميعا نلجأ اليها للاستشارة العلمية والشخصية, ففتحت لنا بيتها ولم تضن بالوقت أو الجهد, فذهب اليها الكثيرون باحثين عن النصيحة أو واضعين أبحاثهم بين يديها لتراجعها لهم وتصلح أخطاءهم بدون أي هدف لها سوي المساعدة ونيل رضا الله.. هكذا كان هدفها الأسمي.. وكنت أتساءل كيف استطاعت أن تكون شعلة من الحيوية والنشاط في العمل ثم تعود لمنزلها فتستقبل فيضا من المكالمات التليفونية أو من يأتون اليها للاستشارات؟ فكيف توافر لديها الوقت والجهد وهي الزوجة والأم التي أنجبت الطبيب والتي تهتم بشئون منزلها بنفسها؟! لم أجد اجابة سوي أن الله سخرها لقضاء حوائج الناس, وأعانها لصدق نيتها وقوة إيمانها, فكما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ان لله عبادا اختصهم بقضاء حوائج الناس حببهم الي الخير, وحبب الخير اليهم, هم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة. وبرغم اصابتها بالمرض الخبيث فقد ظلت طوال رحلة المرض والعلاج نموذجا للصبر والرضا, ظلت الشمعة المضيئة التي لايخبو نورها... والزهرة التي يفوح عطرها.. القلب الذهبي الذي يحتوينا جميعا, وظل بيتها مفتوحا لنا.. كانت تتحامل علي نفسها وتنزل الي العمل لاتفارقها الابتسامة المعهودة وقد استمر إشراقها كأنما كانت تستمد قوتها من حب الناس لها, كنت أحادثها تليفونيا لأطمئن عليها فأجد صوتها وهنا متعبا وأشعر بآلامها, ولكنني أجدها تطلب ان تطمئن علي أخباري, وينقلب مجري الحديث هي تستمع لما لدي وأشفق عليها من الإجهاد لكنها تحثني علي الاستمرار, وتقوم بهذا مع غيري أيضا وهي التي في أمس الحاجة الي الراحة والتخفيف عنها. ثم رحلت عن دنيانا بجسدها لكن بقيت الاسطورة, رحلت وهي في أوج عطائها لكنه المرض الذي لايرحم, فاضت روحها الطاهرة الي بارئها في مثل هذا الوقت منذ ثلاثة أعوام, كانت جنازتها مظاهرة حب انخرطت فيها القلوب في حزن عميق وانهار البعض منا, ذهبنا نعزي أنفسنا علي فقدان أحب الناس, فكثير منا لم يكن يعرف سواها ليقدم له واجب العزاء, لقد جاءت بعد ذلك وفود المرضي والمحتاجين, ولما علموا برحيل صاحبة القلب الذهبي تجددت مظاهرة الحب والحزن والدعاء لها. ولم يمر علي يوم منذ ذلك إلا وأشتاق لها فيه وأشعر باحتياجي لها وأقرأ لها الفاتحة وأدعو الله أن يسكنها فسيح جناته. لقد جعلتني أدرك أن سر عظمة الإنسان وأعظم إنجازاته ليس فقط في حياته ولكن في الأثر الذي يتركه من بعده, وكيف يتذكر الناس بعد رحيله فهي وان عبرت حياتنا سريعا كالطيف ولكن تركت بصمات لا تمحي.. تركت أثرا لم يستطع تركه كثير ممن عمروا سنوات طويلة, فقد كانت ومازالت نعم القدوة لنا, وقد عاهد كثير منا نفسه, علي ان يكمل رسالتها في العطاء المادي والمعنوي, ويحافظ علي كل إنجازاتها وثمرة عطائها, ويستمر في حمل الأمانة التي أوصتنا بها عسي ان نصل الي السلام الداخلي الذي نعمت به. إنها حقا لنموذج يستحق التكريم, ولكن أي تكريم أكثر من بقاء ذكراها خالدة في قلوب محبيها تحية لها, ولكل من يماثلها في الحب والعطاء, ولكل من سار علي نهجها, ولكل من خلف ذكري عطرة بعد رحيله فهم وان رحلوا عن الدنيا لكن أرواحهم باقية معنا تحلق فوقنا لتنير لنا الطريق.. رحمهم الله وأثابهم عنا خير الجزاء. د.إيمان عبد الرحمن قسم الباثولوجيا الإكلينيكية طب عين شمس