ها قد أجريت المرحلة الثانية من انتخابات مجلس الشعب, ليعقبها انتخابات المرحلة الثالثة, ثم انتخابات مجلس الشوري, وها قد تدافع المواطنون علي صناديق الاقتراع لعل وعسي أن تكون البديل في القضاء علي طوابير الخبز والبوتاجاز. وبقدر ما كان الإقبال الشعبي علي الإدلاء بالأصوات صورة واضحة وجلية للعيان, حول التعطش للديمقراطية.. بقدر ما كانت الصورة ضبابية بل تدخل في نطاق ضرب الودع واستطلاع البلورة السحرية فيما يتعلق ببرامج الأحزاب والأفراد الذين خاضوا المعركة الانتخابية, في المجال الاقتصادي وكيفية الخروج بالوطن من مأزقه الحالي, الي شاطئ الأمان والنمو الاقتصادي! فلا أحد يعلم ما هي الفلسفة الاقتصادية التي يعتنقها المرشحون للمجلسين, وهل توجد ثمة أطياف ولو باهتة تشير الي كيفية إحداث التوازن بين قطاعات الاقتصاد المصري, فبينما طغت عمليات السمسرة والصفقات التحتية والعلنية في مجالات المضاربة علي العملات وغيرها, نجد أن القطاع الإنتاجي ممثلا في الزراعة والصناعة قد وقع فريسة إغلاق المصانع وتعطلها, أو التهام الآلاف من الأفدنة الزراعية خلال الأشهر الماضية. هل هناك رؤية حزبية متكاملة حول كيفية تخفيف العجز في الموازنة والدين المحلي المتضخم, ناهيك عن استنزاف الاحتياطي النقدي المصري؟ وما هي مصادر التمويل التي يمكن اللجوء إليها وطرق سداد المديونية الخارجية؟ وهل هناك خطر أو رؤية علمية قائمة علي دراسات موضوعية تشير الي كيفية الخروج بالوطن من مأزق البطالة السافرة وشقيقتها المقنعة, ومراكب الموت العائمة؟ مع كل الاحترام للمسكنات اللحظية لاحتياجات المواطن في هذا اليوم أو ذاك, إلا أن هذا المواطن الذي سقط من حسابات السلطة لسنوات طويلة مضت بينما تشدقت به خطبهم السياسية والبيانات الصادرة عن لجنة السياسات وأصدائها الدعائية, ينتظر ويطالب بأن يأخذ حقه علي خريطة النمو والتنمية الاقتصادية, لقد أعلن رأيه السياسي في صناديق الانتخابات رغبة في الوصول الي حقه في العدالة الاقتصادية والاجتماعية, فكيف ستصاغ هذه الخريطة, وما هي فلسفتها, هل هي رأسمالية ليبرالية أم رأسمالية المجتمع, وماذا عن خطط التنمية والنمو, هل ستكون مركزية أم طبقا للتخطيط التأشيري وماذا عن البنوك والبورصة؟ أسئلة عديدة, يفرضها واقعنا الاقتصادي الراهن وشريط الأحداث التي مرت علينا علي مدي الأشهر الماضية, فإذا كانت الاحتجاجات والمظاهرات الفئوية المطالبة بتعديل الأجور أو التثبيت في العمل, هي الأعلي صوتا والأكثر صدي. فإن التآكل الصامت الذي تعرض له اقتصادنا القومي يكاد يؤدي به الي الانهيار في وسط عالم من العمالقة الصغار يحيطون بنا من كل جانب!! بل إن الأحداث العالمية ومنها أزمة الديون السيادية الأوروبية, كفيلة بأن تدفعنا الي مزيد من التمعن والدراسة بعيدا عن صيحات الحناجر المتصاعدة, لقد كان التلاعب بأرقام الآداء الاقتصادي في إطار لعبة المناورات الحزبية والسياسية, سبب الأزمة التي تفجرت في اليونان وامتدت بعدها الي باقي دول اليورو, فماذا فعلوا؟ لقد وضعوا الخطة تلو الأخري لإنقاذ دولهم, ولم يخجلوا من التوجه الي مؤسسات التمويل الدولية, أو صناديق الاستثمار السيادية, بحثا عن منقذ مالي, حتي لا تتعثر ديمقراطيتهم, بل ومزيد من خطط التقشف تطلعا الي الإصلاح. ماذا نحن فاعلون؟ لقد عشنا في أوهام قمر علي ضفاف النيل, وحملات طرق الأبواب السنوية وأبواقها الدعائية, في الماضي, أما الحاضر, فإن تحدياته أشبه بجبال الجليد, لا يظهر منها سوي المظاهرات الفئوية, أما في العمق فالواقع أجل وأخطر من أن يترك لنظرية الودع أو البلورة السحرية في مجال البحث عن الرؤية الاقتصادية وكيفية صياغتها في برامج فعلية. لابد للأحزاب السياسية والأفراد الذين فازوا في مراحل الانتخابات التي أجريت, أن يقدموا صورة واضحة المعالم وخريطة تفصيلية لكيفية مواجهة تحديات جبال الجليد الكامنة في الأعماق. وليكن خيارنا الي جانب صناديق الاقتراع علي الديمقراطية, الاقتراع علي الأسلوب العلمي والرؤية الموضوعية لحل قضايانا الاقتصادية والاجتماعية.. بعيدا عن نظرية الودع والبلورة السحرية.