ميزة الأنتخابات البرلمانية التى تجرى هذه الأيام انها عن جدارة اول خريطة سياسية لمصر يستطيع ان يراها الناس بأم اعينهم عبر النتائج التى تسفر عنها المراحل الأنتخابية الثلاثة للشعب وللشورى، وهو الأمر الذى لم يكن معروف على اى نطاق عام كان او خاص بل ازعم انه لم يكن معروف بهذه الدقة على مستوى الخرائط الأمنية التى كانت ملك أجهزة التحريات الأمنية من مباحث و مختلف مكاتب و هيئات الأستخبارات المعنية بجمع المعلومات عن الوضع الداخلى. اكبر ميزة حصدها المصريين ان كل شيئ انكشف امام اعين الناس واصبح كل واحد منا يستطيع ان يعرف اتجاهات الناس ليس فقط فى كل محافظة، ولكن فى كل مدينة وكل حي وكل منطقة بداخل الحي، عن طريق عملية بحث سريعة على شبكة المعلومات او الفيسبوك (بتاع النخبة). على الجانب الآخر اكبر خطاء ممكن ان يقع فيه اى متابع لهذه الأنتخابات هو الجزم بأن هذه النتائج هى صورة الخريطة السياسية النهائية لمصر بعد ثورة 25 يناير.الخطاء هنا يكمن فى قراءة النتائج لأن نتائج الأنتخابات هي عبارة عن لقطة للخريطة السياسية للمجتمع المصرى لحظة الأنتخابات وبكل ما يحيط تلك اللحظة من خلفيات وتوازنات. مثلا: هل كانت نتائج الأنتخابات ستختلف لو جرت فى شهر يونيو من هذا العام كما كان مخطط لها حسب خطة الأعلان الدستورى (التى لم يلتزم بها المجلس الأعلى ولا بنتيجة الأستفتاء)؟ هل كانت هذه النتائج ستتغير ان لم يكن هناك استفتاء سابق عليها بكل ما حمله من استقطاب بين مختلف التيارات والتيار الأسلامي؟ لا احد يملك أجابة قاطعة ولكن الشاهد ان من قال نعم فى الأستفتاء كان 78% من الشعب فى حين ان التيار الأسلامي حصد نسبة تقارب ال70% من نتائج المرحلة الأولى.. فهل نستطيع ان نقول ان نسبة التيار الأسلامى اصبحت أقل بالفعل بحوالى 8%؟ ام نقول ان التيارات الأخرى (يسار و الليبرالي و القومى) زادت نسبتهم من 22% الى 30% فى ظرف 8 أشهر؟ وكيف ستكون النتائج لو تمت انتخابات بعد حوالى سنتين من الآن فى ظروف داخلية و اقليمية ودولية مختلفه عن ما يحيط بنا الآن؟ الشيئ الملفت للنظر ان نتائج الدور الأول للمرحلة الأولى كان كفيل بان يجعل مسيحيي الأسكندرية بالذهاب الى صناديق الأقتراع من اجل اسقاط عبدالمنعم الشحات والتصويت طواعيتا الى مرشح الأخوان المسلمين من اجل اسقاط المرشح السلفى. بمعنى ان المصريين مهما اختلفت عقائدهم و افكارهم، لا تختلف قرون استشعارهم بالتعرف على مكمن الخطر القادم نحوهم والأتحاد من اجل مواجهته او كما يقول المثل "انا وابن عمى على الغريب"... المدهش فى امر الشحات انه لم يواجه فقط من قبل الأهالى الذين احتشدوا من اجل اسقاطه ولكن ايضا تم اقصائه من قبل جماعته وحزبه من ان يدلي بأى تصريح الى الأعلام! بالطبع هذا امر كاشف على ان المجتمع اقوى من اى فصيل بداخل المجتمع وهو ما أجبر التيار السلفى على الأسراع بتغطية الموقف قبل ان تتفشى الخسارة فى باقى مناطق الجمهورية فى المرحلة الثانية والثالثة بعد تصريحات الشحات عن الديمقراطية والفن والأدب. نفس الشيئ حدث مع المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية حازم ابو اسماعيل (شيخ النكتة كما يطلق عليه رواد تويتر)، فقد تبراء منه حزب النور السلفى وقالوا ان ابو اسماعيل سلفى لكنه ليس من النور وان كلامه يمثل نفسه... هكذا! بالأصالة عن نفسى، لا استطيع ان آشارك الكثير من اهل بلدنا فى مشاعر القلق التى تنتابهم آزاء نتائج المرحلة الأولى لعدة اسباب. اولا: ان هذه النتائج هى لقطة معبرة عن شعب خارج لتوه من براثين نظام امنى بحت لم يكن يترك اى متنفس لأى قوى سياسية ان تنظم نفسها لتبنى حزب محترم على اصول سياسية واجتماعية حقيقية لذلك كانت الأولوية امام كل القوى الثورية قبل الثورة مثل كفاية و 6 ابريل والجمعية الوطنية للتغير وغيرها هو كسر حالة الجمود فى الحياة السياسة المصرية ولقد رأينا جميعا كيف نجحت هذه الحركات مع غيرها من قادة الفكر والتنوير والنشطاء من اشعال الثورة، وانا ازعم ان الأولويات اذا تغيرت امام الثوار الى العمل السياسي الحزبي فأن نجاحهم سيفوق اى تصور كما كان بالثورة.. ثانيا: بمجرد خروج الثوار فى بلادى من مياديين التحرير يجدوا انفسهم مجبريين على العودة مجددا لأسباب حقيقية وليس "حبا فى المبيت فى الشارع" وهذا ليس وقت الجدال على تلك الأسباب او على اهمية التصعيد المباشر عبر ميادين التحرير ولكنى اقول ان العودة الى الميدان هي اولوية اولى لكل ثائر لوقف خطر سرقة الثورة من قبل شبكة المصالح المحركة لنظام مبارك فى الآساس والتى لا ينفع معها التأنى فى عمل احزاب وسلك اغوار السياسة بل ينفع معها الأحتشاد ضدها لأسقاط اجندتهم (تتغدى بيه قبل ما يتعشي بيك). ثالثا: ان التيار الأسلامي كان له مكان يستطيع ان يتنفس عبره و ينشر فكره سواء بسبب وجاهة طرحه او بسبب غياب البديل وهذا المكان هو المسجد فكان خطب الجمعة وخطباءها، وجمعيات الرعاية والتكافل، وغيرها من الأنشطة هي ساحة مفتوحه امامهم طول الوقت.. بالطبع كانت هناك مضايقات لا حصر لها من الأجهزة الأمنية! لكن مهما آوتيت الداخلية من قوة فلن تستطيع ان تسيطر على ملايين الجوامع فى طول مصر وعرضها. اضف الى ذلك ان الكثير من التيارات السلفية مخترقة من الأجهزة الأمنية ومن السهل بالنسبة للأمن توجيهها (منذ اقل من 6 اشهر كان السلفييون يتظاهرون امام الكاتدرائية، واشعلوا النار بكنيسة فى امبابة، وكانت اولوياتهم هى البحث عن كامليا وعبير، فكيف تغيروا بقدرة قادر؟؟) وبالتالى، نذكر بالقول، بأن الملعب لا يوجد به لاعبون فقط ولكن يوجد به كرة ايضا، فيا ترى من يشوط الكرة وعلى من تسدد؟ الشاهد ان مصر وبلادنا العربية كان بها مشروع سياسي عملاق سد الآفق وطال كل شيئ فى المنطقة اسمه القومية العربية. يخطئ من يظن انه من صنع جمال عبدالناصر، فأول واحد نادى به كان اهل الشام واول من التقطه من ساسة مصر كان أبراهيم باشا الفاتح ابن محمد على باشا الكبير. حتى ان جامعة الدول لم ينشأها جمال عبدالناصر ولكن انشأها الملك فاروق! عبدالناصر ورث هذا الخط وجسد القومية العربية لكن المشروع انكسر فى 1967 ومن ساعتها لم يقم مشروع آخر فى المنطقة والى الآن. مع كل انكسار لأى مشروع من المشروعات السياسية الكبرى يعود الناس الى خط الدفاع الأول وهو الدين (او جلدك العارى)، لذلك ليس من المستغرب بعد نظام مثل نظام مبارك وعملية تجريف للفكر والرأى والرؤى منذ انكسار القومية ان تجد الناس تلجاء الى خط الدفاع الأول الى ان يفرز او يمؤمن المجتمع المصرى الرائد للمنطقة العربية بمشروع جديد ملهم. ساعتها ستتغير نتائج الأنتخابات (ماذا يفعل ال سعود الآن؟)! مشروع المستقبل هذا لن يفلح معه الأخوان المسلمين ولا السلفيين ولا الكتلة المصرية! الشاهد ان الثلاثة وان بدو مختلفون الا انهم مشتركون جميعا (بأستثناء حزب التجمع) فى الأجندة الأقتصادية الرأسمالية اليمينية الصرفه... يحدث هذا فى نفس الوقت الذى تترنح فيه الرأسمالية الأمريكية ونظامها المالي. صحيح ان العالم لم يجد نموذج جديد للفكر الأقتصادى مضارع للرأسمالية لكن صحيح ايضا ان الدول التى تتبنى الديمقراطية الأجتماعية المبنية على العدالة الأجتماعية هى اكثر الدول استقرارا و تقدم واقلها عرضة للمشكلات الأجتماعية المزمنة والأقتصادية الحارقة والسياسية العنيفه (راجع حال السويد والنرويج وفنلندا وغيرها من دول الديمقراطية الأجتماعية)... والناخب فى بلادى اختار 80% من البرلمان او اكثر من اهل الرأسماليه فهل يقوى برلمان مصر على متغيرات العالم؟ ننتظر ونرى.. نتائج الأنتخابات البرلمانية تقول بوضوح انها لقطة أخذت فى لحظة تشكيل المجتمع المصرى الذى بقى ينظر الى خريطة وهمية على انها خريطته وكان يظن ان ما يراه من ملامح هو الحقيقة بعينها... لكن المجتمع المصرى الآن فتح عينيه على ميراث مبارك الذى تركه من خلفه، وبات الثوار اكثر قدرة على أدرك ملامح الخريطة السياسية و الأجتماعية الحقيقية للدولة المصرية فى لحظة التكوين هذه. السياسة فى مصر تشبه المبنى الذى سقط ولكن شخصا ما محتال راودته فكرة بأن يبنى حائط واحد للواجهة فقط يراه الناس من بعيد فيظنوا ان المبنى قائم ويمنع الناس من الأقتراب لكي لا تنفضح الأمور، ثم اتضح ان كل شيء من وراءه سراب... المضحك فى الأمر ان ركام المبنى يظن انه قادر على التجمع وعلى البناء حتى بدون اساس! يحدث هذا بينما الثوار مازالو واقفون بالمعول من اجل الحفر لأساس متين. الثورة اولا, الثورة مستمرة والمستقبل لمصر الثورة وجيل الثورة.. ونذكر اخوتنا من جيل الثورة من محبى ريال مدريد وبرشلونة الذين لم يشاركونا بعد ان المرة الوحيدة التى رفع فيها اسم مصر فى ميادين مدريد واسبانيا كانت على لوحه مكتوب عليها "هنا ميدان التحرير"... تعالوا معنا، الثورة مستمرة .. صباحكم زى القشطة :- )