رحل المفكر المصري الكبير فؤاد زكريا, الذي كان قمة شامخة في ساحة الفلسفة العربية المعاصرة. تميز فؤاد زكريا بسمة أساسية.. وهي أنك تشعر بعد أن تقرأ له بأن ثمة تغييرا إلي الأفضل قد طرأ علي عقلك ووجدانك, وتشعر أيضا بعد قراءته أنك أصبحت إنسانا جديدا مختلفا عما كنته قبل قراءته. وهذه هي سمة الكاتب الجيد وإذا صدق هذا المعيار علي بعض المفكرين والكتاب مرة, فإنه يصدق علي فؤاد زكريا مرات ومرات. كان قلم فؤاد زكريا أشبه بالمحراث الذي يشق الأذهان ويحفرها ويهيئها للزرع الجديد, كانت أفكاره أشبه بمطرقة.. تقرع الرؤوس لتنبهها وتثير اهتمامها, وتنقلها من الخيال إلي الواقع, ومن الوهم إلي العلم, ومن الخرافة إلي الحقيقة. وكان النقد هو جوهر فلسفة فؤاد زكريا, وإذا كان العلم هو سبيل التقدم, فإن النقد هو سبيل التحضر والرقي... إن المجتمعات المتخلفة لاتعرف النقد, وبالتالي لاتمارسه, إنها لا تعرف سوي أحد أمرين: المدح أو الذم. النقد الذي دعا إليه فؤاد زكريا ومارسه طوال حياته هو أبعد مايكون عن هذين الأمرين. إنه التحليل العقلي للأقوال والأفعال للكشف عن محاسنها ومثالبها, ميزاتها ونقائصها. النقد كما فهمه فؤاد زكريا هو الجهد العقلي لعدم تقبل الأفكار تقبلا سلبيا, إنه البحث في أصول الظواهر وجذورها وارتباطها بحقائق الواقع من حولها, أي معرفتها معرفة حقة. إن النقد هو التحدي الحقيقي الذي يتحتم علي الفلسفة أن تقبله من أجل تسويغ وجودها في عالم اليوم, العالم الذي يزداد فيه التخصص وتتراكم الإنجازات العلمية كل يوم, بل كل لحظة. كان فؤاد زكريا مقاتلا جسورا وفارسا نبيلا لاتلين له عريكة.. كان نموذجا للمفكر الملتزم, فهو لم يقف موقف المتفرج السلبي الذي يؤثر السلامة الشخصية أوالمصلحة الذاتية علي حساب ما يؤمن به من مباديء.. لقد خاض العديد من المعارك الفكرية مزودا بمنهج علمي صارم, إذ وقف من ثورة23 يوليو موقفا نقديا في السبعينيات من القرن الماضي. وقد عرض هذا الموقف في ثلاثة مقالات متتالية بمجلة روزاليوسف الاسبوعية مما أثار حفيظة الناصريين والماركسيين ضده, فتصدوا للرد عليه, فرد عليهم بعدة مقالات نقدية, وكانت معركة فكرية شهيرة ورائعة تم تسجيلها في كتاب بعنوان: عبدالناصر واليسار المصري. كما هاجم فؤاد زكريا الجماعات الدينية المتطرفة بضراوة في العديد من كتاباته(1 الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة,2 الصحوة الإسلامية في ميزان العقل مما لم يؤد إلي مهاجمته فكريا فحسب, بل الدعوة لإباحة دمه من فوق منابر العديد من المساجد أيضا. لقد أثري فؤاد زكريا حياتنا الفكرية بمؤلفاته الغزيرة الداعية إلي نبذ الخرافات وسيادة التفكير العلمي في مجتمعاتنا.. ومع ذلك فإن قدرا لايستهان به من الغبن وقع علي هذا المفكر الكبير.. وأكاد أجزم بأنه تعرض في حياته لمؤامرة هدفها تغييبه عن عقول الناس ووجدانهم.. وإلا فبماذا نفسر عدم الاحتفاء بمفكر بقامة فؤاد زكريا حتي اختطفه الموت؟ أين كانت مؤسساتنا الثقافية من هذا الرجل؟ هل كانت تنتظر حصوله علي جائزة نوبل حتي تدرك كم كان فؤاد زكريا شامخا وعظيما؟! إن الأمم العظيمة هي التي تعرف أقدار النابغين والنابهين من أبنائها, وإذا لم نكن قد انتبهنا إلي قيمة هذا الفيلسوف المصري الكبير أثناء حياته, فلا أقل من أن نحتفي به بعد رحيله علي النحو الذي هو أهل له.