في عهد ريجان وتاتشر في الثمانينيات وفي أوج الحرب الباردة حين كان مجاهدو أفغانستان ضد الغزو السوفيتي يسمون مناضلين من أجل الحرية لا إرهابيين, ارتفع صوت تصور رائج عن اقتصاد المشروع الفردي الحر باعتباره الأساس الوحيد الضامن للحرية حتي للمواطن متواضع الملكية أو عديمها. وهذا التصور يقدم أوراق اعتماده متمثلة في أخلاقيات العمل وارتفاع الدخل نتيجة بذل الجهد والمبادرة والمسئولية الشخصية وهي أخلاقيات تكاد تؤمن بها أغلبية الناس في كل البلاد. ولكن هذا التصور يدس في هذه الأخلاقيات شيئا آخر لا علاقة له بها هو واجب السماح لما يسمي باليد غير المرئية للسوق أن تنفرد بقيادة طريق الاقتصاد والعدالة الاجتماعية دون تدخل من جانب العاملين وممثليهم في المشروع الفردي الحر. فاليد غير المرئية تحول الجري الأناني وراء الربح إلي تحقيق مصلحة الجميع ربما بطريقة سحرية خفية. ولابد تبعا لذلك من رفض وضع حد أدني للأجور قانونا, ورفض ما سمي برامج دولة الرفاهية ثم ممارسة بدلا من ذلك تخفيض الإنفاق الاجتماعي العام. ووراء هذا التصور نظرية شاملة تزعم أنه إذا ازداد الأغنياء ثراء فإن الرخاء الفائض من أعلي سوف يرشح وينز وتسقط قطراته علي الموجودين أسفله. وقد أطلق نقاد هذا التصور عليه اسم اقتصاديات الشعوذة والسحر وتحريك الأرواح. وكانت تاتشر تقول لايوجد شيء اسمه المجتمع بل هناك أفراد من الرجال والنساء لهم عائلات, وتعلن عن ثقتها في الضمير الأخلاقي للأغنياء. وكانت تعتبر أن حقوق ومصالح الفرد العامل لايحميها ويهتم بها كما يجب النقابيون أو اليساريون بل المؤمنون بالله الذي أعطاهم بحكمته التي بلا حدود السيطرة علي ملكية الأموال في البلاد المتعددة. فتاتشر آمنت كما يردد كثيرون في مصر اليوم بالقيم الدينية وبأن مستقبل العالم يعتمد علي الرجال والنساء القلائل المؤمنين بالدين المستعدين لممارسة ونشر العقيدة في الداخل والخارج. والسياسة عندها وعند اليمين صراع بينهم ممثلين للخير وبين آخرين ممثلين للشر, ولابد أن ينتصر الخير. وفي هذه الدعوة لايجب تركيز الاهتمام في المكاسب الاقتصادية مهما تكن مهمة لأنها ليست القضية الرئيسية والقضايا الرئيسية بالضرورة أخلاقية. وهم يرون الاقتصاد الرأسمالي مجسدا لقيمة دينية مرتجاة ناشرين علي التحيزات المصلحية طابعا مقدسا. وقد انتصر الاقتصاد الرأسمالي علي الاقتصاد الاشتراكي وفقا لهذا الرأي بسبب سموه الأخلاقي. وابتداء من ريجان اتجه أنصار هذا الرأي إلي القول بأن ترتيبات دولة الرفاة لن تكون ضرورية إذا كان لدي أي أمة ما يكفي من المليونيرات المؤمنين. فإن كرمهم الطبيعي ومواهبهم في خلق الثروة وانتشارها يكفيان. ومن الواضح أن أحدا لايستطيع أن يقتبس أقوالا للمسيح أو أحد الأنبياء في مدح الأغنياء لمجرد غناهم. كما أن إحصائيات الواقع أكدت أن الهبات الخيرية من جانب أثرياء تبلغ دخولهم السنوية مايزيد علي نصف مليون دولار تناقصت فيما بين0891 و8891 بمقدار56% كما أن خرافة تخفيض الضرائب علي الأغنياء كدافع مزعوم إلي التنمية الاقتصادية أثناء ثمانية أعوام من حكم ريجان أدت إلي تورم عجز الميزانية من009 بليون دولار إلي مايزيد علي3 تريليونات دولار, كما ارتفعت البطالة الرسمية فوق01%. وقد ورث ريجان هذا الاتجاه لبوش الابن. وما علاقة واقع اليوم الفعلي بسيادة هذا العالم المصنوع من لغو الكلام؟ إن853 ملياردير في العالم كله يمتلكون ثروة تضاهي مايملكه نصف سكان المعمورة, وإن خمس أمم العالم(02%) تستحوذ علي58% من الناتج العالمي الإجمالي وعلي48% من التجارة العالمية. هذا التفاوت الضخم بين الأمم صار يوازيه تفاوت مماثل داخل كل أمة. فلم تتحقق القرية الكونية المتشابهة المزعومة, فهناك فوارق ضخمة في المستويات المعيشية والتطور الاقتصادي. وإن التدهور الاقتصادي والتدمير البيئي والانحطاط الثقافي هي أمور تفرض طابعها علي الحياة اليومية للغالبية العظمي من البشرية. وتتضاعف الهوة باستمرار بين الخمس الأغني من الدول والخمس الأفقر. وما تنشره السلطات الأمريكية من إحصاءات رسمية عن مستوي البطالة فيها يراه بعض المفكرين حملة إعلامية كاذبة. فهي تكتفي بسبعة ملايين عاطل( في عام5991 مثلا) ولاتضيف إليهم ستة ملايين مواطن يرغبون في العمل, ولكنهم تخلوا عن السعي وراءه لفقدانهم الأمل في الحصول عليه. وهناك أيضا مايقرب من01 ملايين عامل ومستخدم يعملون بعقود مؤقتة8,3 مليون يعملون لحسابهم الخاص وغالبيتهم جامعيون يعملون في غير تخصصاتهم ومايقرب من خمس العاملين يحصلون علي أجر دون المستوي الرسمي للفقر كما تقول منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة, ولا يسحب في معدلات البطالة الرسمية المنخفضة كل هؤلاء بالإضافة إلي الذين سرحوا من أعمال ذات أجور عالية ليعملوا بنصف الأجر السابق. ففي الواقع تسيطر الولاياتالمتحدة علي العالم لا من خلال أخلاقيات وإيمان مليونيراتها بل من خلال قوتها العسكرية وتطوق حكومتها كوكب الأرض بمواقع عسكرية وشبكة من القواعد العسكرية في كل قارة. وتنشر الولاياتالمتحدة آلافا من الجنود والجواسيس ومتخصصين بالتكنولوجيا والمدربين والمتعاقدين في الأمم الأخري وفي كل محيطات وبحار العالم. ولكن بعد هجمات11 سبتمبر1002 علي مركز التجارة العالمية والبنتاجون حدث تغير في تفكير القادة الأمريكان الذين رأوا الجمهورية الأمريكية أعظم عملاق في التاريخ لم تعد مقيدة أو ملتزمةبالقانون الدولي أو مصالح الحلفاء, أو أي قيود علي استعماله القوة العسكرية ويقولون ردا علي سؤال لماذا يكرهنا كل هؤلاء الناس, إنهم يكرهوننا بسبب الغيرة والحسد. وخارج الولاياتالمتحدة رأي معظم الناس أن هذه الولاياتالمتحدة شيء مختلف عما تقوله عن نفسها, فهي في الحقيقة قوة عسكرية رهيبة تعمل من أجل السيطرة علي العالم. وتأخذ وزارة الدفاع دور وزارة الخارجية في تحديد وإدارة السياسة الخارجية. فالولاياتالمتحدة تفضل التعامل مع الأمم الأخري من خلال استعمال القوة أو التهديد باستعمالها بدلا من المفاوضات والتجارة والتبادل الثقافي, ومن خلال علاقات بين عسكريين وعسكريين بدلا من علاقات بين مدنيين ومدنيين. ويقال إننا نعيش في فترة فقدت فيها الكثير من الأشياء معناها المعروف, واحتلت أمور أخري الفضاء الذي جري إخلاؤه من أفكار العدالة والتقدم والعقل. وهذه الأمور الأخري هي عبارة في رأي بعض المفكرين عن هراء ولغو انتشر انتشارا واسعا هراء المليونيرات المؤمنين رفيعي الأخلاقيات, ويد السوق الحرة غير المرئية التي ترفض أي تدخل وتحقق السلام والتوازن والتطور والعدالة من تلقاء نفسها. المزيد من مقالات ابراهيم فتحى