تعبر إضرابات وإعتصامات ومظاهرات المصريين, بمطالبها المسماة فئوية, عن البعد الإجتماعي لثورة25 يناير. فقد أطلقت الثورة عقال ما كان متواترا قبلها من حركات إحتجاجية ومطلبية إقتصادية إجتماعية, وفجرت تطلعات المصريين المشروعة للتحرر من الفقر. وبغيرالحق في التنمية يستحيل تمكين المصريين من حقوق المواطنة الاقتصادية الإجتماعية, برفع الحد الأدني للأجور لضمان حياة الكفاف للمشتغلين وأسرهم وتصفية فقرهم المطلق, وتحسين دخولهم المحدودة ونوعية حياتهم وتقليص فقرهم النسبي. والواقع أنه من المطالب الإقتصادية والإجتماعية ما هو غير مشروع لا تنبغي الإستجابة له, لكن أغلبها مشروع تنبغي الاستجابة له. وفي حالة عدم مشروعية المطالب, وحين لا تسمح الموارد المتاحة بغير إستجابة تدريجية للمشروع منها, لا بد من توضيح الحقائق وبشفافية للمحتجين وللرأي العام. والحقيقة أنه بغير تفعيل الحق في التنمية لن يسفر مطلب التوزيع العادل للدخل إلا توزيع عادلا للفقر, وتفاقما لمشكلة البطالة. وثمة مظالم يمكن ويتحتم رفعها بغير تباطؤ, حتي يمكن بناء ثقة تسمح بقبول هذه الحقيقة, وهي ثقة لم تبن بسبب توالي إخفاقات وتباطؤ إستجابات القيادة, وإنفلات توقعات وتراكم إحباطات الأمة. وبغير تمكين المصريين من الحق في التنمية لن يجد جيش العاطلين, وأغلبه من الشباب المتعلم, سوي فرص عمل- إن وجدت- لا تؤمن حقوقهم وغيرهم من العاملين في عمل لائق, بأجر منصف ودخل كريم للعاملين وأسرهم, وبشروط عمل عادلة لا تعرف القهر والغبن, وفي ظروف عمل إنسانية تكفل السلامة والصحة, ولساعات عمل معقولة, وبأجازات دورية مدفوعة الأجر, ومع مكافأة عن العطل الرسمية, وبمساواة في الترقية وفقا لاعتباري الأقدمية والكفاءة. لكنها تبقي حقوقا يحميها الحق في الإضراب المنظم وحرية تكوين النقابات. وبغير تمكين المصريين من الحق في التنمية لن يتحرر المصريون من الحاجة والجوع والفاقة والعوز والخوف من المستقبل, ولن يكون بمقدورهم حتي مجرد الحلم بنوعية حياة أفضل تمنحهم السعادة, ويستحيل توفير وسائل العيش الكريم في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة. ويرجع هدر الحق في التنمية دون ريب الي إخفاقات النظام الاقتصادي والاجتماعي السابق, الذي أهدر الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والتنمية الحقيقية, في سوق حرة لا تعرف استراتيجية للتنمية والتصنيع, وإن حققت نموا لاقتصاد ريعي; لم يثمر سوي تبديد الموارد وإثراء القلة وإفقار الغالبية. أضف الي هذا أن استمرار التخلف الاقتصادي, قد كرس تدهورا نسبيا ومطلقا في مستوي معيشة ونوعية حياة المصريين, نتيجة وأد مشروعات التنمية والتصنيع, بقيادة محمد علي وطلعت حرب وجمال عبد الناصر, ثم التخلي عنها في عهدي السادات ومبارك, مع إنفتاح إقتصادي فاشل, وإصلاح إقتصادي قاصر, ثم إنفلات فساد منظم. ويسجل تقرير صادر عن وزارة التجارة والصناعة عام2006 مؤشرات هدر الحق في التنمية, بالمقارنة مع إثنتي عشرة دولة, ذات مستوي دخل متوسط مقارب لمصر, أو تمثل منافسا إقليميا أو عالميا للاقتصاد المصري, خلال الفترة من1999 و.2004 وهكذا, فقد تراجع وباستمرار متوسط معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في مصر, وشغلت المركز العاشر. وكان متوسط دخل الفرد من الناتج المحلي الإجمالي هو الأدني في مصر, وشغلت المركز الحادي عشر. ولا يمكن إرجاع تدني متوسط نصيب الفرد للزيادة السكانية, لأنه قد بلغ في تركيا ما يزيد عن ضعف مثيله في مصر رغم تقارب عدد سكان البلدين, كما يؤكد التقرير. وأما متوسط معدل نمو الاستثمار المحلي الإجمالي, وهو المحرك الأساسي لأي نمو اقتصادي, فقد كان سلبيا في مصر طوال الفترة, وشغلت مصر المركز الثاني عشر. وكان متوسط نسبة الاستثمار المحلي الإجمالي في مصر هو الأدني مقارنة بجميع دول المقارنة, لتشغل مصر المركز الأخير دون شريك! وارتبط ما سبق بتدني معدل الادخار المحلي الإجمالي في مصر, التي شغلت المركز العاشر بين دول المقارنة. ورغم تدني الاستثمار المحلي في مصر, فقد ارتفع عبء الدين الخارجي, رغم انفرادها بإسقاط وإعادة جدولة المديونية الخارجية, وزاد الدين العام المحلي علي الناتج المحلي الإجمالي. ووفق مؤشر متوسط صافي تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة الي مصر, شغلت المركز العاشر, وكان معدله الي الناتج المحلي الإجمالي في مصر هو الأقل بين كل دول المقارنة باستثناء أندونيسيا, التي بلغ معدل الادخار المحلي الإجمالي فيها أكثر من ضعف نظيره في مصر!! ووفق مؤشر درجة تنافسية بيئة الأعمال احتلت مصر المرتبة قبل الأخيرة بين دول المقارنة. وكان حجم الاحتياطيات المتراكمة من النقد الأجنبي لدي مصر هو الأعلي بين دول المقارنة, لكن المبالغة في تكوينها كانت إبعادا لموارد هامة عن التنمية. وقفز معدل التضخم بأعبائه علي الفقراء من4.7% في بداية التسعينيات ليبلغ13% في عام2004, وأما معدل البطالة فقد بلغ9.9% في مصر, وزاد علي ثمان من الدول موضع المقارنة. وقد كان إهدار الحق في التنمية نتيجة منطقية لتوزيع الاستثمار القومي الإجمالي, الذي يبين تدني وتراجع معدلات الاستثمار في التصنيع, كما كشفت سلسلة البيانات الأساسية لوزارة التنمية الاقتصادية عن خمس خطط للتنمية في الفترة1982/1981-2006/.2007 فقد تراجعت نسبة الاستثمارات المنفذة في الصناعة والتعدين عدا البترول طوال الفترة, ولم تزد كثيرا عن نصيب الإسكان والملكية العقارية باستبعاد البناء والتشييد في الانتاج والخدمات, بل كان الاستثمار الصناعي هو الأقل خلال الخطة الرابعة! ويبين هذا ضعف لوبي الصناعة في صنع السياسة الاقتصادية والتشريع الاقتصادي مع غلبة لوبي العقارات من منتجي حديد التسليح والأسمنت والمضاربين علي أراضي البناء! ويبدو الحق في التنمية بعيد المنال في ظروف الإنفلات الأمني والفوضي الشاملة بعد ثورة25 يناير, في ظل إخفاقات إدارة فترة الإنتقال, بسبب ما فجرته من فورة توقعات. وحتي يتم نقل الحكم والإدارة من المجلس الأعلي للقوات المسلحة والحكومة الإنتقالية الي الرئيس المنتخب والحكومة التي سيشكلها, فإنه ينبغي, ويمكن, تخفيف حدة وتقليص عواقب ومخاطر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في المرحلة الإنتقالية. وقد تضاربت التقديرات بشأن حالة الاقتصاد المصري بعد ثورة25 يناير, إذ بينما أكد وزير القوي العاملة أن الاقتصاد المصري مهدد بالافلاس!! صرح وزير المالية بأن الاقتصاد المصري يواجه تحديات لكنه غير مهدد بالافلاس. والحقيقة أن مؤشرات أداء الإقتصاد الكلي في مصر شهدت تراجعا, لكنها بقيت أفضل مما كانت عليه في نهاية الثمانينيات. ولم يتعرض الاقتصاد الحقيقي والبنية الأساسية لتدهور جسيم مقارنة بما جري في أعقاب سقوط النظم الإشتراكية مثلا. ويبقي يقيني راسخا بأن ثورة25 يناير تحمل وعدا بانجاز الحق في التنمية بعد الإطاحة بنظام اقتصادي واجتماعي فاشل وفاسد, ومع بناء نظام جديد وتبني استراتيجية للتنمية والتصنيع. وللحديث بقية. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم