دعاني الصديق محمد حربي من الاهرام إلي المشاركة في ندوة قام بتنظيمها والإشراف عليها, كان عنوانها مستقبل الثقافة في مصر بين طه حسين وثورة25 يناير وقام بافتتاحها الأستاذ عبد العظيم حماد, رئيس تحرير الأهرام, وكانت مهداة إلي روح العميد طه حسين وإلي الشاعر زين العابدين فؤاد وإبداعه, عقدت في الفترة من30 إلي31 أكتوبر الماضي. وقد رجعت أثناء استعدادي لهذه الندوة, مرة أخري, إلي كتاب مستقبل الثقافة في مصر للدكتور طه حسين, وفيه وجدت أفكارا مهمة متجددة تستحق أن نذكرها هنا ونتذكرها. ففي إجابة عن سؤاله أتوجد ثقافة مصرية وما عسي أن تكون؟ قال طه حسين: نعم توجد ثقافة مصرية, وقال أيضا إن من أهم خصائصها: إنها تقوم علي أساس وحدتنا الوطنية, وإنها تتصل اتصالا قويا بنفوسنا المصرية الحديثة كما تتصل اتصالا قويا عميقا بنفوسنا المصرية القديمة ايضا, وكذلك إن هذه الثقافة تظهر أيضا في ذلك الذوق المصري. الذي ليس هو ابتساما خالصا ولا عبوسا خالصا ولكنه شيء بين ذلك, فيه كثير من الابتهاج وفيه قليل من الابتئاس, وأضاف طه حسين: وستري فيه أيضا هذه النفس المصرية التي تجمع بين الجدة والقدم والتي تثبت للأمام وقد تقف من حين إلي حين تنظر إلي وراء ستري فيها من الاعتدال المصري الذي يشق من اعتدال الجو المصري والذي يأبي علي الحياة المصرية أن تسرف في التجديد. هكذا كان طه حسين في عام1938 يؤكد أهمية الاعتدال واللطافة والتسامح والوسطية المصرية التي تقوم علي أساس سعة الأفق والسماحة والاتزان الوجداني, فما الذي نؤكده في حياتنا الآن, ألا نجد أن لغة الاقصاء هي السائدة والصوت الزاعق المهدد المبتز هو المهيمن. مما قد يجعلنا نتساءل معه مرة أخري: أتوجد ثقافة مصرية واحدة الآن ؟ وهل لم تزل تلك الخصائص التي أشار إليها طه حسين موجودة الآن, خاصة مع تغير الجو بمعناه المناخي, ومعناه السيكولوجي والاجتماعي أيضا ؟ نحن لا نريد أن نقدم إجابات سريعة أو متسرعة منذ البداية. دعونا نحاول أولا فهم موضوع الهوية وكذلك علاقة هذه الهوية بالذات الإنسانية وباللغة والمستقبل بشكل عام. إن الهويةIdentity مفهوم يستخدم لوصف تصور الفرد أو الأفراد وتعبيره أو تعبيرهم عن تفردهم أو خصوصيتهم أو الانتماءات العامة التي تجمعهم( كما في قولنا: الهوية القومية أوالهوية الثقافية) كما يستخدم المصطلح للإشارة أيضا إلي هوية المكان أو هوية النوع وهو مفهوم يرتبط كذلك بصورة الذات( أي بذلك النموذج العقلي الموجود لدي فرد عن نفسه أو جماعة عن نفسها) في ضوء العلاقات مع الآخرين. وإنه بينما قد مال بعض العلماء إلي التعامل مع مفهوم الهوية علي أنه وحدة ثابتة, مفهوم ثابت, أو فئة تصنيفية ثابتة عبر الزمان المكان, فقد نظر البعض إليه علي أنه عمليةProcess متطورة تتأثر بالزمان والمكان وهذا هو المعني الاقرب في رأينا إلي روح العلم, وذلك لأنه مادام كل شيء يتأثر بالزمان والمكان فإن مفهوم الهوية لن يكون أبدا مفهوما متعلقا فقط بالماضي, بل أيضا بالحاضر والمستقبل وفي ظل منظور زمني منفتح. وترتبط الهوية بمفهوم التوحد وذلك لأن الهوية تدرك هنا علي أنها تتكون أو تتشكل من مجموعة من المكونات( الأفكار المشاعر السلوكيات) التي يتم التوحد معها والالتزام بها ويتم تفسيرها بواسطة الأفراد علي أنها تجمعهم. وفي تصور البعض الهوية أمر مرن نسبيا, لكن التجليات أو الطرائق التي تتم ممارستها من خلالها هي التي قد تتسم بعكس ذلك. وتصبح الهوية واضحة من خلال معالم أو علامات مثل: اللغة, اللباس, السلوك, اختيار المكان, ويعتمد تأثير ذلك كله علي تعرف المجتمع أو الآخر هذه الجماعة وكذلك تعرفها نفسها علي أنها كذلك. وهذه المعالم هي التي تضع الحدود الفاصلة المحددة التماثلات والاختلافات بين حاملي هذه المعالم أو العلاقات وغير الحاملين لها. لابد لنا لكي نفهم الهوية الثقافية لأي جماعة من الجماعات أن نفهم الشخصية الإنسانية, وكي نفهم الشخصية الإنسانية لابد لنا أن نفهم ما يتعلق بالذات الخاصة بهذه الشخصية وبتكوينها الخاص ولغتها الخاصة, وفي ضوء تعريف بيرن مثلا للشخصية الإنسانية: الشخصية تنظيم معقد من المعارف والوجدانات والسلوكيات التي تعطي لحياة الشخص توجها ونمطا متسقا. وتتكون الشخصية مثل الجسم من بناءات وعمليات وتعكس كلا من الطبع( الموروثات) والتطبع( الخبرة) كما أن الشخصية تشمل آثار الماضي, بما في ذلك ذكرياته وذاكرته, وتشمل أيضا بناءات الحاضر والمستقبل وتميز الفرد بين غيره من الأفراد. في رأينا أن الهوية الجمعية هي هكذا تشبه الشخصية الفردية أيضا; فهي تنظيم من المعارف والوجدانات والسلوكيات التي تعطي لحياة جماعة ما توجها ونمطا متسقا. وتتكون هذه الهوية من بناءات وعمليات, وتعكس كلا من الطبع( أو الموروثات), والتطبع( الخبرة والسلوك) كما أنها تشمل آثار الماضي وبناءات الحاضر والمستقبل حيث يتفاعل علي تلك الجوانب جميعها في تشكيل تكوين خاص إيجابي أو سلبي مميز للهوية الخاصة بجماعة معينة, وإضافة إلي ما سبق كله, يمكننا القول أيضا: أولا: إن الهوية لا يمكن تعريفها إلا من خلال الاهتمام بالفروق الفردية والاعتراف بها أيضا, أي من خلال التركيز علي تلك الفروق أو الخصائص المميزة لجماعة معينة عند مقارنتها بالجماعات الأخري التي تعيش علي مقربة منها أو علي مبعدة منها, بل ولا يعني الوعي بهذه الاختلافات أن تدخل هذه الجماعة أو تلك في عداء أو شقاق مع الجماعات الأخري, بل أن تبحث عن مواطن الاتفاق ونقاط التشابه التي تجعل من علاقتها بالجماعات الأخري, الموجودة علي مقربة منها( داخل الوطن الواحد) أو علي مبعدة منها( خارج هذا الوطن) علاقات أكثر إيجابية وسلاما وإبداعا وتسامحا, إنه الفهم والتفهم والوعي والتربية الإبداعية هو ما يجعل من مثل هذه العلاقات أمرا ممكنا. ثانيا: إنه مادمنا قد اعترفنا بوجود تلك الفروق الفردية التي تميزنا عن الآخرين, لكنها التي تجمعنا معهم أيضا, في ضوء وجود تكوينات مشتركة خاصة بالمعرفة والوجدان والسلوك, حيث توجد جوانب معرفية ووجدانية وسلوكية مشتركة تجمع بيننا إضافة إلي وجود جوانب معرفية ووجدانية وسلوكية تميز بيننا ولا نقول تفرق بيننا, فإنني أعتقد أن التركيز علي الجانب الوجداني هو الأكثر أهمية هنا, وذلك لأنه هو الجانب الذي تتمثل فيه الفروق الفردية سواء بين الأفراد أو بين الجماعات علي نحو أكثر بروزا وحضورا وهو أيضا الذي يفرق بينهما في السلوك, بينما يميز الجانب المعرفي بينهما في الإنجاز والإبداع. يظهر الجانب الوجداني في الانفعالات وفي التعبير عن هذه الانفعالات, في لغة الحوار والتفاعل مع الآخرين, في الغضب والاحتجاج; وفي كل الأحوال التي تتشكل فيها انفعالات تظهر سلوكيات صريحة أو ضمنية, معلنة أو مستترة وقد تصل في شدتها إلي احتجاجات ومظاهرات وسلوكيات غاضبة عنيفة, كما نلاحظ في مصر الآن وفي غيرها من بلدان العالم. ثالثا: ينبغي إدخال البعد الزمني في الحسبان عند تعريف الهوية, فالماضي يؤثر, والهوية لا يمكن أن تعمل من خلال الحاضر فقط, فالماضي يؤثر كما قلنا علي هويتنا علي أنحاء شتي وكذلك المستقبل وقد تقع بعض الهويات في أسر الماضي, فتقوم بالثبيت عليه لو استخدمنا التحليل النفسي الفرويدي; أو تعتبره النوذج الأصلي الذي ينبغي أن تعود إليه علي نحو متكرر, لو استخدمنا لغة يونج, ولا تري الحاضر ولا المستقبل إلا في ضوء الماضي, هذه هوية عاجزة عن الإبداع, هوية تندثر ومصيرها الفناء. والرأي الأقرب إلي الصواب هو أن الهوية ينبغي أن ننظر إليها في ضوء منظور زمني منفتح: أي منظور يجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل في إطار واحد متصل مستمر متفاعل. رابعا: ينبغي خلال عملية تشكيل الهوية وضع البعد المكاني في الاعتبار أيضا, فأية جماعة ثقافية لا تعيش بمفردها في صحراء قاحلة, وذلك لأنه توجد معها داخل الوطن الواحد جماعات أخري تختلف عنها دينيا أو أيديولوجيا وينبغي أن تعيش في توافق واتفاق معها, كما توجد خارج أي وطن جماعات ودول وثقافات أخري أيضا تؤثر علي هذه الجماعة وتتأثر بها, سلبا أو إيجابا. هكذا ينبغي أن يتم بناء الهوية علي أسس واقعية وقوية, لا علي أسس خيالية أو متخيلة أو خيلائية متعاظمة تدفعها وتدفع الآخرين معها نحو هاوية لا قرار لها. لقد كان الفيلسوف الفرنسي كوندرسيه يقول: أنا إنسان بالضرورة, فرنسي بالصدفة أما نحن فينبغي علينا أن نقول: نحن مصريون بالضرورة, عرب ومسلمون, ومسيحيون, بالضرورة أيضا, وإن ما يجمعنا أكبر كثيرا من ذلك الذي يمكنه ان يفرقنا, تجمعنا مصر الكبيرة, العظيمة, الخالدة. المزيد من مقالات د.شاكر عبد الحميد