نار ودمار وخراب وآثار لما تبقي من شوارع مليئة بحفر خلفتها القذائف والتفجيرات التي لاتتوقف.كانت تلك هي الصورة النمطية لما كانت عليه بقايا كافة المدن الألمانية في نهاية شهر ابريل عام.1945 فقد إنتحر زعيم ألمانيا أدولف هتلر في مخبئه وأعلنت الحكومة الجديدة الإستسلام إيذانا بإنتهاء الحرب العالمية الثانية في أوروبا.وبين الخرائب تحرك عملاء الشرق والغرب لإقتناص غنائمهم من العلماء الألمان ونقلهم لخدمة الدول المنتصرة كما تم تفكيك الكثير من المصانع ونقلها إلي الدول المنتصرة في الحرب. كان هذا هو حال ألمانيا منذ68 سنة فقط.ألمانيا بلامؤسسات ولا مرافق ولا إتصالات ولامواصلات ولاكهرباء ولامنافذ لبيع الغذاء والدواء!!فقدت ألمانيا ربع منازلها وإنخفض إنتاج الغذاء بمقدار النصف عما كان عليه قبل الحرب,وتم توزيعه علي هيئة حصص محدودة للفرد!!وسادت السوق أساليب المقايضة بعد فقدان الثقة في قيمة العملة التي إنخفضت قيمتها بشدة!!كما فقدت البلاد نسبة كبيرة من قوة العمل بعد مقتل ملايين الرجال ممن شاركوا في الحرب!! وكان التوقع السائد أن تتحول ألمانيا إلي دولة إستهلاكية تعيش علي ماتصدره لها السوق الأمريكية المنتعشة. ولكن وعلي الرغم من الدمار والإحتلال الأجنبي والتقسيم الذي أصاب البلاد فقد كان للقدر وللشعب كلمته.فبعد مرور أقل من68 سنة علي هذا المشهد الرهيب نجح الألمان شعبا قبل حكومة في تخطي عثرات الماضي والإنطلاق بقوة نحو المستقبل بإتقان العمل والعلم والتطوير وذلك في وقت قدر بعقد واحد فقط من الزمان. ونتيجة لمعدلات النمو الهائلة للإقتصاد الألماني والسمعة المتميزة لإتقان العامل الألماني ومهارته تدفقت الإستثمارات الخارجية علي البلاد وأصبحت ألمانيا الموحدة صاحبة أكبر وأقوي إقتصاد في أوروبا ورابع أكبر إقتصاد علي مستوي العالم ويقترب نصيب الفرد من الناتج القومي من29 ألف يورو سنويا.واليوم تعد من أكبر المصدرين في العالم حيث قدر حجم صادراتها عام2009 ب121,1 تريليون دولار. وبدراسة ما حدث في ألمانيا( الشطر الغربي)منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يمكن ملاحظة أن أبرز عوامل تحقق المعجزة الألمانية كانت الإصلاح النقدي الذي صاحب مولد العملة الجديدة,وإلغاء القيود الحكومية علي الأسعار وهو ماحدث عام1948 خلال فترة زمنية قدرت ببضعة أسابيع ثم تبعتها تخفيضات ضريبية خلال الفترة بين عامي1948 و1949كما تم إلغاء توزيع الغذاء بحصص تموينية محددة. هذا بالإضافة لعقد إتفاق لندن عام1953 المتعلق بتخفيض الديون الخارجية الخاصة بألمانيا.أما أبرز عوامل النجاح فتمثلت في المواطن والعامل الألماني الذي تحمل كافة الصعوبات وقدم أفضل مستوي لإتقان الإنتاجية وأعلي ساعات عمل في الأسبوع. فقبل نهاية الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة ظهر الإقتصادي لودفيج إيرهارد الملقب ب'منقذ ألمانيا' وصاحب' المعجزة الإقتصادية'المعروفة في ألمانيا ب'فيرتشافتس فوندر'.فقد شعر ايرهارد مثل غيره من الألمان بدنو الهزيمة من ألمانيا عام1944 فوضع مذكرة توضح كيفية إعادة بناء الإقتصاد الألماني في حالة الهزيمة.وعندما حدث ماتوقعه الإقتصادي الألماني واستولي الحلفاء الغربيون علي الشطر الغربي من البلاد تبنوا أفكاره التي كانت بعيدة عن الفكر النازي وتم تعيينه في منصب إقتصادي مرموق وزير إقتصاد ولاية بافاريا يكفل له تنفيذ أفكاره المتعلقة بإعادة بناء إقتصاد ألمانيا المنهار. وفي عام1949 أصبح إيرهارد وزيرا للإقتصاد في حكومة المستشار الألماني كونراد آديناور وظل في موقعه حتي عام1963 حينما تم إختياره مستشارا لألمانيا خلال الفترة من عام1963 وحتي نهاية عام.1966 لقد تبني إيرهارد والإقتصادي الألماني ألفرد أرماك نموذج إقتصادي حمل إسم' إقتصاد السوق الإجتماعي'. وجاء النموذج الجديد ليجمع بين محاسن إقتصاد السوق الحر,مثل توفير المنتجات والقدرة الإقتصادية المتطورة عالية الكفاءة, وفي نفس الوقت يتلافي مساوئ المنافسات الشرسة والإحتكار وإستغلال العمال والمعاملات التجارية الضارة بالمجتمع. فالهدف من إقتصاد السوق الإجتماعي هو تحقيق أكبر قدر من الرخاء مع تأمين حقوق المجتمع والعمال. والدولة مسموح لها بالتدخل الهامشي في الشأن الإقتصادي الذي يرتكز بشكل رئيسي علي القطاع الأهلي المدني وبالتالي يقتصر دور الدولة علي تحفيز النشاط الإقتصادي ووضع سياسات تضمن بيئة تنافسية إيجابية ووضع سياسات إجتماعية لحماية الفرد والعمال. وسرعان ما أسس المجتمع المدني شركات مساهمة للإنتاج وإعادة الإعمار بالتعاون مع البنوك.فظهرت شركات كبري مثل مرسيدس وفولكسفاجن وباير وشركات الحديد والصلب.. إلخ.. ولم تكن تلك الشركات الكبري بمعزل عن المجتمع بل تم ربط كل شركة كبري بشركات أصغر ومشروعات صغيرة ومتناهية الصغر تقدم خدماتها ومنتجاتها للشركة الكبري الأم.وسرعان ما تتحول المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر إلي شركات متوسطة تستوعب الكثير من الأيدي العاملة.وتعد الشركات المتوسطة أكبر مولد لفرص العمل في البلاد. ويظهر دور الدولة في أوقات الأزمات الإقتصادية وخاصة عند إرتفاع أعداد العاطلين.فتتبني سياسات لتشجيع المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر وتدعمها بقروض صغيرة أو متوسطة بشروط ميسرة لحين نجاحها في دخول السوق وتحقيق النمو الإنتاجي الذي يسمح لها بالمنافسة وبالتالي يتحقق الهدف المتمثل في تشغيل العاطلين وتوفير دخل لإعاشة ذويهم وإيجاد مشروعات قابلة للنمو والتحول إلي شركات كبيرة منتجة قادرة علي تلبية إحتياجات السوق المحلية والإقليمية والعالمية. أما فيما يتعلق بالديون الخارجية كانت ألمانيا مدينةبمقدار30 مليار مارك ل70 دولة وكان من الصعب علي الألمان تسديد ديونهم دون أن تتأثر ميزانية البلاد المثقلة بالالتزامات.وتم التوصل لإتفاق بلندن في فبراير1953 ألغيت بمقتضاه نصف الديون الألمانية بينما تمت جدولة النصف المتبقي ليتم تسديدها علي المدي البعيد. وكافأت الأقدار الشعب الألماني بشكل درامي غير متوقع.فقد نشبت الحرب الكورية1950 1953 وصاحبت الحرب حالة من زيادة الطلب السلعي العالمي في وقت إنخفض فيه المعروض من السلع.وبالتالي لم تجد أسواق العالم بدا من فتح أبوابها علي مصراعيها لتلقي المنتجات الألمانية وبكميات كبيرة. وكان الشعب الألماني في إنتظار الفرصة السانحة فانطلقت المصانع الألمانية والعمالة الماهرة لتلبية إحتياجات السوق العالمي وتمكن الألمان من مضاعفة قيمة صادراتهم خلال فترة الحرب الكورية والسنوات التي تلتها. وعلي الرغم من إعتقاد البعض بأن المعجزة الإقتصادية الألمانية كانت نتاج لمشروع مارشال الذي دشنته الولاياتالمتحدة بعد الحرب لإغاثة إقتصاديات الدول الأوروبية, فإن الخبراء يؤكدون أن خطة مارشال لم تقدم لألمانياالغربية سوي قدر ضئيل من المساعدة. فبحلول عام1954 قدمت خطة مارشال وبرامج المساعدات الخارجية المصاحبة ما قدر ب2 مليار دولار فقط وفي عامي1948 و1949 لم تمثل مساعدات خطة مارشال سوي أقل من5% من الدخل القومي للبلاد. وكان إستنزاف المساعدات الخارجية المقدمة لألمانيا يتم بواسطة التعويضات التي كانت تقدمها لدول الحلفاء وقدرت ب4,2 مليار دولار سنويا بالإضافة لتكاليف الإحتلال.