رغم أنه لا يجوز التعليق علي الأحكام القضائية بإعتبارها عنوان الحقيقة إلا أنني أستطيع القول عن قناعة تامة أن حكم محكمة القضاء الإداري بإيقاف إجراءات إنتخاب مجلس النواب وإحالة قانون إنتخاب المجلس إلي المحكمة الدستورية العليا هو بمثابة الحل السعيد للأزمة المستحكمة في مصر ولو بصورة مؤقتة. ذلك أن تأجيل الإنتخابات لما يقرب من شهرين وربما يري رئيس الجمهورية في الحكم فرصة ليعيد النظر في موعد الإنتخابات فيؤجلها إلي أكثر من ذلك تقديرا للأوضاع الصعبة التي تمر بها البلاد. نعم هو الحل السعيد لأنه يتيح وقتا كافيا لكل الأطراف لمراجعة مواقفها, فنحن كما يري الجميع إزاء موقف بالغ الصعوبة وأزمة مستحكمة لها جوانب متعددة, فهناك من ناحية الإنفلات الأمني وله مظاهر متعددة منها الإشتباكات الدامية يوميا في مدينة بور سعيد ومدينة المنصورة, ومن حين لآخر في القاهرة والأسكندرية والمحلة الكبري وغيرها. وهناك أيضا ما تشهده البلاد لأول مرة منذ إضراب ضباط البوليس في أبريل1948 وما سبقه من إضراب كونستبلات البوليس في نفس العام. حيث أضرب جنود وضباط الأمن المركزي في محافظة الدقهلية إحتجاجا علي الزج بهم في مواجهات عنيفة مع الشباب الثائر, وكذلك قيام أمناء الشرطة في عدد غير قليل من الأقسام ومديريات الأمن بالإحتجاج علي أوضاعهم, وقيام ضباط الشرطة بالإحتجاج أكثر من مرة لأسباب متعددة منها إستشهاد زملائهم في مواجهات مع قطاع الطرق واللصوص دون أن يكون لديهم التسليح الكافي. وربما لا يلتفت الكثيرون إلي حقيقة أن هذه التمردات والإحتجاجات تعود أساسا إلي أن السلطة قد حملت أجهزة الأمن وقوات الشرطة عبء مواجهة ملفات كان يجب أن يتم حلها سياسيا وليس أمنيا. وخاصة في مدينة بور سعيد ومدينة المنصورة, والمليونيات التي شهدها محيط قصر الإتحادية. ومالم تخفف السلطة من مسئولية الشرطة في حل مشاكل سياسية بالقوة المفرطة, كما يحدث في عهد وزير الداخلية الحالي فإن البلاد سوف تشهد لا محالة تمردا واسع النطاق في هذا القطاع لأن الزج به في مواجهة الشعب عامة والشباب بصفة خاصة لن يجدي بعد أن خلع الشعب رداء الخوف وإكتسب القدرة علي مواجهة مثل هذه المواقف. ومن جوانب الأزمة المحتدمة في مصر حاليا والتي يساهم الحكم القضائي في إتاحة بعض الوقت لإعادة النظر من جانب السلطة في كيفية إيجاد حل حقيقي لها هو الجانب المتعلق بإعادة النظر في سياسة الدعم ورفع أسعار بعض مشتقات الطاقة كالبنزين والسولار وما سوف يترتب عليه من غلاء لم يعد بإستطاعة الطبقات الكادحة تحمله لأن الزيادة سوف تترجم في النهاية إلي زيادة أسعار السلع والخدمات علي المستهلك الفقير. وهناك جانب ثالث للأزمة المستحكمة في البلاد يتمثل في قرار جبهة الإنقاذ الوطني بمقاطعة الإنتخابات, ورغم رهان السلطة علي أن بعض أطرافها سوف تشارك في الإنتخابات في اللحظة الأخيرة إلا أن ذلك لم يحدث, ولم تتفكك الجبهة كما يتمنون, بل أعلنت الجبهة أنها سوف تدعو المواطنين إلي الإمتناع عن التصويت من خلال أنشطة جماهيرية متعددة, وهو ما ينذر بمواجهات وتوترات شديدة في عديد من الأماكن بين المقاطعين والمشاركين في الإنتخابات. كل هذه المظاهر للأزمة القائمة في البلاد والتي كان إجراء الإنتخابات النيابية في ظلها سيؤدي إلي مزيد من الإحتقان والتوتر بل وإنفجار الوضع في البلاد تجعلنا نسعد بالحكم القضائي بإيقاف الإنتخابات البرلمانية. ونعتبر الوقت المتاح حتي إبداء رأي المحكمة الدستورية في القانون بمثابة هدنة مؤقتة وتأجيل لإنفجار الأزمة لعله يدفع المسئولين في البلاد وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية إلي إعادة النظر في سياسات الحكم والبحث عن حلول حقيقية للأزمة تقوم علي سياسات جديدة والتخلي عن وهم الإنفراد بالسلطة ومخطط إحكام سيطرة الإخوان المسلمين علي أجهزة الدولة متجاهلة المعارضة السياسية إستنادا إلي أنها ضعيفة ولا تملك نفس القدر من القوة الذي تملكه جماعة الإخوان المسلمين, ذلك أن المواقف التي تتخذها المعارضة والأنشطة التي تقوم بها تؤدي بالفعل إلي تقوية قدراتها ولن يستمر الإختلال في علاقات القوي السياسية بينها وبين الإخوان طويلا فهناك تغيير يجري بالفعل علي أرض الواقع والشواهد علي ذلك كثيرة منها خسارة طلاب الإخوان لإنتخابات الإتحادات الطلابية في الجامعات المصرية, ومنها زيادة عدد المعارضين في الإستفتاء الدستوري من22% سنة2011 إلي36% سنة2012, ومنها أن ما حصل عليه الدكتور محمد مرسي في الجولة الأولي من إنتخابات الرئاسة خمسة ملايين صوت فقط بينما كان مرشحو الإخوان في إنتخابات مجلس الشعب علي أكثر من عشرة ملايين صوت. والسؤال الذي تطرحه هذه التطورات الآن هو هل يستفيد رئيس الجمهورية من هذا الحكم القضائي لطرح مبادرة سياسية تفتح الباب أمام تجاوز الأزمة ودعم عملية التحول الديمقراطي لتجنيب مصر ويلات الإنقسام السياسي والإحتراب الأهلي؟ هذا ما نرجوه ونؤيده بكل قوة.