في صنوف المتعة المحببة إلي القلب والعقل والوجدان ليس أبدع من ذلك الغناء العربي الذي تردد علي أسماعنا قديما ما بين يا ليل يا عين علي الطريقة المصرية و أوف اللبنانية, ومواليا العراقية, والذي صاحب ليل العرب الساحر أزمنة طويلة علي جناح فن الموال الذي ألهب حناجر عتاة الطرب الرصين من أساطين الغناء الكبار جنبا إلي جنب مع أولئك المغنين الشعبيين الذين جابوا القري والنجوع والضياع وكافة الأصقاع, عبر هذا اللون الذي يطلق عليه (الغناء الفردي الحر) والذي يعني أنه لا يتقيد بأزمنة أو إيقاعات, حيث يبدأ المطرب غناءه بمقام موسيقي يتفنن في التنقل من مقام معين إلي مقامات أخري بطريقة انسيابية جميلة تمكنه من العودة إلي ذات المقام الذي بدأ منه, بينما الرؤوس تتمايل نشوانة في سكات تارة, أو في صيحات مجلجلة تعقب هذا الأداء تنشد الإعادة والاستزادة, فقد كانت كل كلمه تحمل في باطنها حكمة وفي ظاهرها قصة مغلفة ب موال عنوانه الحزن أو الفرح, وعبر تلك التنويعات تطرب الأذن و معها تسمو الروح في علياء الليل البهي. منذ بواكير القرن العشرين وحتي منتصف الثمانينيات كان الموال رفيق الليل ومبعث البهجة في قلب لوحة الغناء التقليدي الملحن حتي أدخل موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب التلحين علي قالب الموال فقيده بلحن ثابت يؤدي بنفس الطريقة كل مرة, وكذلك فعل القصبجي والشيخ زكريا. هؤلاء الذين أوجدوا طريقا للمطربين الذين لا يتمتعون بملكة الابتكار الفوري لأداء المواويل, قبل أن يزحف علينا طنين الغناء الحالي الغارق في ركاكة اللغة وميوعة اللحن وليونة الأجساد المسكونة بالرغبة المتوحشة التي تلتهم المعني واللحن في ترنحات ليل العرب علي إيقاع الخلاعة والعري والابتذال. ليتنا نعرف مبعث الداء الذي حال بيننا وبين الموال الشجي في حب الوطن والناس فما أحوجنا إليه الآن من أي وقت مضي بعد أن خاصم غالبية المطربين حاليا فن الموال حتي أولئك الذين برعوا فيه وجنحوا نحوغناء تغريبي عجيب, و تحت شعار الحداثة والتجديد, خرج علينا زمرة من مخربي الطرب بصخبهم وطنينهم الذي اعتلي عرش الذاقة العربية في تحد سافر, مثل أفعي زحفت علينا في جنح ليل غابر تنثر فحيحها في فضاء الطرب الأصيل لتأتي علي الأخضر واليابس, بينما نقف نحن مشدوهين يخيم علينا الوجوم من هول المنظر, نضرب الأكف ببعضها البعض والنسوة يلطمن الوجوه من فرط الدهشة التي تعلو الجباه المكلومة جراء ذلك الخراب الذي عم غيطان القمح والذرة والشعير,غيرعابئة بتطاول قامات النخيل في كبريائه المعهودة. قضي الأمر ولا حول ولاقوة إلا بالله في فقيدنا العزيزمن ألوان الغناء الجميل ولاعزاء للرجال أمام تخنيس (نجم الجيل), (نجم الشباب), (ملك البوب), (الهضبة) وغيرها من ألقاب, ولا عزاء للنساء في مواسم الرقص وفرط العري الذي يغطي كامل الشاشة العربية, في غياب كامل لفن كان خلاصة تجربة وحكمة تعبر في الغالب عن الشجن الذي يعتمل بداخل نفوس البشر العليلة. وعلي الرغم من ذلك الخلط الذي كان بين الموال وبين الغناء الشعبي في العالم العربي, فإن الموال الذي بات يعاني من ندرة حالية, يظل يهب علينا بعبق نسائمه بين الحين والآخر ليمتع الحس البشري ويستفز فيه المعاني حين يعيد للأذهان صوت محمد العزبي ومحمد عبدالمطلب وشفيق جلال ومحمد رشدي وأم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم وفريد, ومن قبلهم فيروز وناظم الغزالي وصباح فخري وفايد محمد فايد ومحرم فؤاد ووديع الصافي وسميرة توفيق وصباح ووردة ونجاة وبدرية السيد في اللون الشعبي, ووصولا إلي كاظم الساهر ونجوي كرم ونور مهنا وعلي الحجار ومحمد الحلو ولطفي بوشناق وأسماء لمنور وصابر الرباعي, وقد حفل الخليج أيضا بكثير من ألوانه بصوت محمد عبده وطلال مداح وأبوبكر سالم وغيرهم في المغرب العربي من عتاة الموال الأندلسي الذين لاتسعفهم الذاكرة الآن. نعم نحن بحاجة إلي موال حقيقي يصاحب حالة الشجن والكلمات الحزينة التي تعبر عن خلاصة تجاربنا الثورية الحالية مصحوبا بالناي تلك الآلة الحزينة هي الأخري التي تزيد من شجن الموال وعذوبته كوسيلة للتعبير عن آلامنا, ووسيلة مقاومة لما يعترينا من نوائب الدهر والأيام وهو ما لا نجده في الأغاني الأخري سواء الكلاسيكية أوالشعبية التي تشكل طوفانا هادرا في الشارع العربي. لكن يبدو الأمر مستحيلا مع تراجع الكلمة المغناة حاليا, فالموال ليس فنا ارتجاليا فحسب بل هو فن مكتمل العناصر, يتطلب أصواتا قوية فضلا عن إعداد وثقافة ومفردات ومعرفة عميقة باللغة. فضلا عن كل مامضي فإن استعادة فن الموال يعد دربا من دروب الخيال الذي لايمكن أن يتحقق في ظل تراجع دور مهرجان الموسيقي العربية الذي نعيش أجواء دورته العشرين حاليا في ظل رئيسته المزمنة رتيبة الحفني التي تخاصم كل فن جميل يخاطب الذائقة السليمة علي جناح المجاملات المفرطة والاستسهال وعوامل السن والتعرية, وهو مايستدعي حالة ثورية لانتزاعها من براثن هذا المهرجان اليوم قبل غد حتي لاتستكمل مشروعها العقيم بتجريف ماتبقي من تراثنا الغنائي الرصين, وتقوم بتكفين الأصوات المصرية والعربية التي تمتاز بالعذوبة وتضعها في توابيت التحنيط.. المزيد من مقالات محمد حبوشة