يحكي أن الشيخ عبدالعزيز البشري, وهو غني عن التعريف كأديب وعالم وواحد من أبرز ظرفاء مصر وساخريها في القرن العشرين, كان يمشي مع بناته علي شاطئ البحر في موسم التصييف. وكان مولانا يرتدي الزي الأزهري المعروف جبة وقفطان وعمامة بيضاء, فيما بناته يرتدين فساتين عادية وفوق رؤوسهن قبعات برانيط تحميهن من أشعة الشمس.. وفجأة سمع الشيخ شبابا يتصايحون ساخرين: شوفوا الشيخ اللي ملبس بناته برانيط؟!! ومن فوره رد بسخريته المعهودة: أما أنكم أغبياء وولاد إيه بصحيح.. عاوزيني ألبسهم عمم؟!! أتذكر هذه اللقطة البشرية نسبة إلي البشري كلما تابعت الأدبيات السياسية والإعلامية للتكوينات السياسية, التي ترفع العقيدة الدينية علي أسنة رماح الصراع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في مصر الآن, حيث الإصرار علي إلباس كل ما هو وضعي ودنيوي ثوب الدين, حتي وإن كان ذلك الوضعي من نوع السلبيات والنقائص, التي يجب أن يتحرز منها كل إنسان سوي ناهيك عن أن يكون ممن يجسد الدين في ذاته هو, إضافة إلي أنهم يفعلون الأمر نفسه مع الوضعي الإيجابي الذي جاء ثمرة لجهود إنسانية طويلة, ساهم فيها من هم علي غير الملة بدور رئيسي. في الجانب الأول السلبيات والنقائص نجد تلك التكوينات التي تعددت أسماؤها, وتكاثرت أطروحاتها كل يدعي لنفسه أنه الفرقة الناجية, وتعاظمت تهديداتها تمارس شراء الأصوات وبذل الرشاوي الانتخابية وتسميها صدقات وهبات أحيانا, وتأليفا للقلوب أحيانا أخري, وتمارس أخبث المناورات والالتفافات وتعقد الاتفاقات ولا تلتزم بها وتسميها المكر الحسن, ومكر الخير وأحيانا تعتبر الأمر حربا تجوز فيها الخدعة!, ويلحق بذلك ممارسة الانتهازية السياسية والاجتماعية والسطو علي جهود الآخرين للاستئثار بالمغانم باعتبار أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ثم إنهم ومنذ عقود طويلة يمارسون الاستقواء بالخارج, تمويلا وإعلاما, فيما يحرمونه علي غيرهم باعتبار أنهم ومن يدعمونهم ويستقوون بهم أخوة في الإيمان بل جسد واحد, بينما مسلك غيرهم استعداء واستقواء بدار الحرب علي دار الإسلام! إنها كلها أمور تستحق لبس البرنيطة, وهم مصممون علي إلباسها العمم والغترة حتي وإن بدوا بالبدل والكرافتات. وعلي الجانب الآخر الإيجابي فلقد ناضلت شعوب خارج نطاق الحضارة الإسلامية من أجل إنجازات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ومعرفية وعلمية, ولم تنكر تلك الشعوب عبر جامعاتها ومؤسساتها الثقافية دور الحضارة الإسلامية في حمل شعلة التنوير والمعرفة في مراحل تاريخية معينة, كانت تلك الشعوب أثناءها تعيش عصورا مظلمة, ثم نجد تلك التكوينات السياسية التي تزعق من حولنا الآن بالويل والثبور وعظائم الأمور لمن يخالفهم ولمن يختار غيرهم, ولدرجة وصلت إلي التكفير, تطرح بعض تلك الإنجازات الحضارية التي أنجزتها تلك الشعوب وتصر علي إلباسها العمائم. إن كل ما يتصل بنظم الحكم المعاصرة الرئاسية البرلمانية المختلطة وغيرها من طرائق الانتخابات والدساتير وسن القوانين والفصل بين السلطات إلي آخره إنجاز في صميم اكتماله لا ينتسب للحضارة الإسلامية, وقد سبق أن كتبت في ذلك تفصيلا وفي هذه المساحة مقتبسا من العلامة الراحل الدكتور أو قل الدكاترة حامد عبدالله ربيع. ومع ذلك يسمون الاقتراع غزوة الصناديق. ثم إنهم ينظمون في النقابات ويفعلون فيها ما يفعلون من عينة الشق الأول السلبيات والنقائص وفور أن يفوز أحدهم بكرسي أو موقع علت العقائر صائحة مروعة: إسلامية.. إسلامية, وكأن كل الذين عارضوهم ولم يعطوهم ثقتهم خارج إطار الملة, حتي وإن شهدوا الشهادتين وشاركوهم إقامة الصلاة وصوم رمضان وحج البيت ويؤدون الزكاة! وقس علي ما سبق العديد من المجالات التي كان آخرها مجال الفنون, حيث ظهرت موضة المسرح الإسلامي والسينما الإسلامية والإبقاء علي فن النحت شريطة تغطية المنحوتات بالشمع أو كسر أجزاء منها! أختم فأقول إن ديننا الإسلامي الحنيف العظيم يتعرض لمحنة جديدة غير المحن التي ابتلي بها منذ الفتنة الكبري وتوريث الحكم إلي الآن, لأن أولئك القوم يدركون تمام الإدراك أن أخطاءهم وسلبياتهم وقصور فهمهم, شأنهم شأن بقية البشر ستحسب علي الإسلام وستخصم من الرصيد العظيم للحضارة الإسلامية, التي ساهم في بنائها بشر من غير المسلمين أي من اليهود والمسيحيين والصابئين والمجوس, وأيضا الكفار والمشركين لأنني أظن وليس كل ظن آثما أن المشرك الذي أرشد الرسول صلي الله عليه وسلم ومعه الصديق إلي المدينة صاحب سهم شديد الأهمية في التمكين لتلك الحضارة.. ثم من منا ينكر دور أبي طالب عم النبي.. والأمثلة بعد ذلك بغير حصر. المزيد من مقالات أحمد الجمال