لم تكن الاضطرابات الأخيرة التي اجتاحت مدن العالم مفاجئة لي لعدة أسباب, فهي ناتجة عن أزمة مالية طاحنة من التطرف الرأسمالي الذي أوقع العالم في قبضة مجموعة من الشركات, سيطرت علي العالم, منتهكة طموحات البشر وحقوقهم الإنسانية في تطوير وتأمين قدراتهم الأخلاقية والفنية والمعرفية, وأيضا بسبب التطور التكنولوجي الذي جعل الصيحات تطلق في الشرق فيكون صداها في الغرب والعكس, فانتشرت الأفكار دون سيطرة أو تعديل أو ترتيب, وكذلك آليات الاحتجاج المبتكرة, واستنساخ الشعارات والتجارب, فتولدت علاقات إنسانية افتراضية لها آثار واقعية شديدة السخونة, ذلك بالإضافة إلي معلومات سابقة ذكرها لي الأستاذ (أحمد عيسي) المدرس المساعد بجامعة عين شمس, وطالب الدكتوراه في الاقتصاد بكندا, الذي أفادني بأن هناك في عدة مدن كندية اندلعت منذ شهور مظاهرات عنيفة تعترض علي الدولة وسياستها, ورغم أن هذه المظاهرات كانت مخربة راح ضحيتها الكثير من الأفراد والممتلكات, فإن التغطية الإعلامية لها كانت ضعيفة, ولأنه يقبل علي العلم إقبال المدقق الشغوف, فقد علم أن هؤلاء المحتجين ينتمي أغلبهم إلي مذهب (الاناركيه) أو الفوضوية (Anarchism) التي ترفض الدولة والسلطة المركزية, وتقوم علي مبادئ لا سلطوية للإدارة الذاتية (selfgovernance), باعتبار الدولة تحمي النظام الاحتكاري الطبقي, والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج, ولأن هؤلاء المحتجين اتخذوا من العنف وسيلة للتعبير عن أفكارهم, فكان هذا الأستاذ النابه قلقا بعدما علم من شبكة( الإنترنت) أن هناك قسما منهم في مصر, ويعتبر نفسه من رواد الثورة المصرية الأخيرة, فيخشي أن تقع مصر في فخ الثورة الدائمة التي تشكل أكبر خطر علي الاقتصاد المصري الذي يحتاج إلي الاستقرار ليتعافي, ويكون قادرا علي تلبية الاحتياجات الفئوية التي تطالب بالعدالة الاجتماعية, وتلك لا تتحقق بالنوايا الحسنة, ولا بالمظاهرة, ولكن بالبرامج الاقتصادية البديلة, أعتقد أن تقديره كان مصيبا في خطورة (الاناركيه) ومظاهراتها التي تمكنت الهيمنة الإعلامية العالمية للشركات الكبري, التي تقدر علي التعمية الإعلامية مثلما تقدر علي الفضح والإثارة, أن تغطي عليها وتقلل من خطورتها منذ شهور طويلة ولكن طبيعة العصر الانفتاحية أقوي من أي هيمنة, فاندلعت المظاهرات في العالم كله من أمريكا الشمالية والوسطي إلي أوروبا وآسيا وفي الدول الرأسمالية الكبري, احتجاجا علي خطط التقشف وتضاؤل فرص العمل التي يدفع فاتورتها الأغلبية, فانطلقت الشعارات التي تقول نحن 99% أي الأغلبية التي تعمل ويذهب الربح للكبار فقط, فكانت الدعوة الرمزية التي بدأت ب إحتلوا وول ستريت لتجتاح باقي البورصات والبنوك العالمية! وضمت هذه المظاهرات تيارات مختلفة, ولا شك أن (الاناركية) إحداها. بدأت (الأناركيه) بفكر فلسفي بعد الثورة الصناعية, ويري أصحابها أن العدالة لا تتحقق بوجود الدولة, ولذا يجب أن تحل ويحل محلها منظمات تعاونية, لتعود الطبيعة إلي سيرتها الأولي, ويري الفوضويون أن الطبيعة البشرية قادرة علي التغلب علي الفساد في النهاية, بدون سلطة آمرة, وتضمنت أفكار (جان جاك روسو) هذا المفهوم بمركزية الحرية الفردية, التي قادت إلي الثورة الفرنسية! عرض (ويليام جودوين) النظرية في شكلها الحديث في كتاب تساؤلات في العدالة السياسية, اعتبر الحكومة بطبيعتها معاكسة لأي تطور للعقل البشري, بينما كان (بيير برودون) أول من أطلق عن نفسه (anarkist), أي لاسلطوي, واعتبر أن الرأسمالية والاشتراكية كلاهما يحطم حرية الانسان, لقمع الدولة التي تحمي الملكية الخاصة, أو تمنع حرية امتلاك الفرد لوسائل إنتاجه الخاصة. تبدو النظرية طوباوية فتفترض أن الحكومات إذا أوقفت تدخلها لحماية الاحتكارات فكل عامل سينال قيمة عمله, فتتنافس عليه الشركات, كما يتنافس العمال علي الشركات, فكلاهما في حاجة للآخر, دون حاجة إلي الدولة ومؤسساتها القمعية, وكما ترفض الاناركيه الاحتكارات الرأسمالية فهي كذلك ترفض احتكار الدولة لوسائل الإنتاج وتجميع الملكية, مما حدا بأحد أبرز دعاتها المتشددين (ميخائيل باكونين) بوصف (ماركس) بالسلطوية, وأن الماركسية لو وصلت للحكم ستحل محل الطبقة الحاكمة, التي ثاروا ضدها. وهو ما حدث بالفعل. وكما تسببت الفوضوية (الاناركيه) في قيام الثورتين الفرنسية والروسية تسببت أيضا في الحرب الأهلية بإسبانيا, لعدائها للقوميات الفاشية, واستمرت الحرب الأهلية 3 سنوات من عام 1936, انتهت لصالح القوميين بعد أن دفعت ثمنا باهظا لدينامية الكفاح المسلح! بعد أن ظن الناس أن النظرية الفوضوية انتهت باندماجها في الفردية المتطرفة, حيث حرية الفرد لا تحدها الدولة بل تحميها, كما يروج لها قي أمريكا قلعة الرأسمالية, أو في الماركسية المتطرفة باعتبار أن الماركسية تتطلع في أعلي مراحلها إلي مجتمع بدون دولة, مجتمع من الجماعات مختلفة الأحجام لكل غرض وعمل, وتوزع الثروة طبقا للحاجات فتتحقق الحرية! لكن يبدو أنها تطل بتطرفها من جديد بعد سقوط الشيوعية, وبداية انهيار الرأسمالية المتطرفة, فهذا الوضع يوجد مجالا للتخيلات التي تطالب بالمستحيل, الذي يقوم علي أنقاض الدولة, فتقوم تيارات فكرية قد تثير الوهم في النفوس البائسة, فتجذب الشباب الثائر, الذي أغلقت أمامه أبواب الطموح والأمل في المستقبل, فينصاع لمثل هذه النوعية من الأفكار الهدامة, في ظروف دقيقة يمر بها الوطن في الداخل, وفي عالم يعاني التوتر ويتربص بعضه ببعض, وهناك قوي دولية لديها القدرة علي الترويج لأفكار تنتمي للخيال لهدم الواقع, وتجييش الشباب والعملاء والإعلام لإضعاف الدول من الداخل لتمرير أهداف ليست في صالح الشعوب, فالدولة القوية هي الضامن لحرية الفرد مهما كان موقعه, بينما الدولة الضعيفة لا حرية فيها إلا للأقلية القوية! مصر عرفت الدولة من آلاف السنين وكانت عزتها عندما يشتد بنيان الدولة, غرائز وقوي ومصالح الفرد لا تنمو الا في إطار مجتمع متشكل في بنيان منتظم من المؤسسات الشفافة, وهو ما توفره الدولة القوية, فالدولة ليست منفصلة عن الفرد, بل هي تقوم عليه, ويرتبط نجاح الدولة ومعيار قوتها عندما ترتبط مصلحة الفرد بالمصلحة العامة, وقيامة المصريين الأخيرة, لا أعتبرها إلا قيامة من أجل الدولة, التي رأوا أنها تتفكك بفعل قلة مجرمة, اختزلت مصلحة الدولة في مصالحها الانتهازية, فأضعفت مؤسسات الدولة التعليمية والثقافية والسياسية والاقتصادية المعيقة لطموحاتها الفوضوية, ولكنها والحمد لله لم تتمكن من المؤسسة العسكرية, المؤسسة المنظمة, التي يعتمد عليها المصريون الآن في إعادة الاعتبار لباقي المؤسسات في الدولة, لنهضة تقوم علي المواهب العلمية المهدرة من جراء إضعاف الدولة. الجيش هو المؤسسة التي حافظت علي كوادرها العلمية المدربة الجادة, فتصدت للاناركيه الفوضوية التي اختزلت الدولة في مصالحها الاحتكارية, وعليها الآن التصدي للأناركيه الفوضوية التي تغذي الانتماءات المذهبية والدينية والعرقية بافتعال الأزمات وتضخيمها, لتقضي الهويات الصغري علي هوية الدولة الجامعة! يقع علي الجيش المصري عبء التصدي لأشكال الاناركيه الفوضوية الجديدة التي يمولها الخارج بالمال والاعلام والشعارات الركيكة, بإعادة بناء مؤسسات الدولة اعتمادا علي شباب مصر المقبل علي العلم لا الإعلام من أمثال الأستاذ (أحمد عيسي) الذي نبهنا لخطر (الاناركيه) فزاد العلم قلبه هدي وسيرته عدلا وأخلاقه حسنا! المزيد من مقالات وفاء محمود