لم يكن مشهد القذافي غارقا في دمائه بعد أن توسل إلي الثوار ليرحموه بعد أسره, سوي نهاية منطقية وطبيعية لدكتاتور فريد في طغيانه لم يكتف كغيره من الطغاة باستخدام آلته العسكرية لقتل وقمع شعبه ومعارضيه وفرض حكمه وتبديد ثروات بلاده النفطية الضخمة في دعم حركات الإرهاب في العالم وشراء الأشخاص لبناء مجده الزائف في أن يكون أمير المؤمنين وعميد الحكام العرب وملك ملوك إفريقيا. ولكنه اختزل ليبيا في شخصه لأكثر من أربعة عقود جعلها حقل تجارب لأفكاره العبثية, فقد استبدل دولة المؤسسات والقانون بما سماه نظام الجماهيرية وفقا لفلسفة الطريق الثالث ما بين الاشتراكية والرأسمالية التي وردت في كتابه الأخضر وتقوم علي حكم اللجان الشعبية التي تحميها اللجان الثورية في إطار نظريته الوهمية حكم الشعب بنفسه, لكنه لم يشذ عن درس التاريخ في أن كل طاغية ستكون نهايته الحتمية مأساوية. رحل القذافي وترك معه تركة ثقيلة أمام الشعب الليبي ومعركة أصعب من معركة إزاحته عن السلطة, يتحتم علي الثوار والمجلس الانتقالي مواجهة تحديات ضخمة بعد أربعة عقود مريرة توقف فيها تاريخ تطور البلاد, ويبرز التحدي الأكبر في استعادة الشخصية الليبية لذاتها وطبيعتها بعد أن مسخها القذافي بحكمه الأمني وزرع فيها الخوف عبر نظامه الجاسوسي القمعي, وكذلك في استعادة اللحمة بين أبناء الوطن بعدما قام بخلق حالة استقطاب وجرح غائر بينهم عمقته الثورة المسلحة, التي تحولت من مظاهرات سلمية إلي حرب أهلية استمرت ثمانية أشهر راح ضحيتها أكثر من ستين ألف شخص ومثلهم من المصابين والمعاقين وذلك عبر إجراء مصالحة وطنية لا غني عنها لبناء ليبيا من جديد. إن الشعب الليبي من الشعوب النادرة التي لا توجد فيها اختلافات عرقية أو دينية أو طائفية أو لغوية والتي يمكن ان تكون بيئة مواتية للصراع الأهلي, ولذلك فإن المصالحة لن تكون عسيرة, فالتوافق بين الثوار عبر الحوار والتفاهم حول مستقبل بلدهم وملامحه هو الذي سيمكنهم من مواجهة التحديات واحتواء الاختلافات والتناقضات فيما بينهم ويمنع تحول ليبيا إلي صومال او عراق آخر, فالخطورة الآن أن تتحول التوجهات السياسية المتباينة للثوار ما بين إسلاميين وليبراليين ويساريين, إلي صراع علي السلطة فتجر البلاد إلي حرب أهلية ستكون وبالا علي الجميع, كما أن إقصاء وتهميش والانتقام من أتباع القذافي سوف سيكون عامل توتر وعقبة أمام عملية التحول الديمقراطي في ليبيا. وبرغم أن المجلس الانتقالي وضع خريطة طريق تقوم علي كتابة دستور جديد وتشكيل حكومة انتقالية وإجراء انتخابات تشريعية, إلا أن ترسيخ الديمقراطية علي الطريقة الغربية لن يكون سهلا في ظل مجتمع تهيمن عليه بشدة الثقافة القبلية ولا توجد فيه أية مؤسسات أو مجتمع مدني, وبالتالي تصبح هناك حاجة ملحة لتكريس ثقافة الديمقراطية, بدلا من ثقافة القبلية, تساوي بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات وتنشر التسامح والتعايش بين الاختلافات وترتكز علي وجود مجتمع مدني قوي حتي تكون هناك ديمقراطية حقيقية وليست شكلية توجد فيها المؤسسات مثل البرلمان والحكومة والأحزاب لكنها غير فاعلة كما رأينا في كثير من دول العالم الثالث. وليبيا أمامها الآن التحدي الاقتصادي في إعادة إعمار ما أحدثته الحرب من تدمير كامل للبنية الأساسية ومرافق الدولة وتدمير لمدن بأكملها خاصة في مصراتة وسرت وزليتن والزنتان وترهونة وبني وليد والبريجة وبن جواد وغيرها والتي كانت أهدافا لقصف حلف الناتو لأشهر عديدة, وهذا يحتاج إلي توظيف واستثمار الموارد النفطية الضخمة والأصول المالية الكبيرة في الخارج وإعادة بناء الاقتصاد لمواجهة البطالة وإعادة اللاجئين في الدول المجاورة وبناء مؤسسات الدولة الإدارية وفقا لمعايير الشفافية والمحاسبة, كذلك تحدي إعادة بناء السياسة الخارجية الليبية علي أسس جديدة تضمن تحقيق استقلال القرار السياسي بعد دعم الناتو للثورة, والابتعاد عن مخاطر التبعية كما حدث في العراق, وذلك عبر إقامة علاقات توازنية مع الغرب ومع الدول العربية والإسلامية والإفريقية. وليبيا تحتاج إلي بناء جيش وطني نظامي لحماية الوطن, ليحل محل نظام الكتائب الذي أسسه القذافي, يستوعب فيه كل الثوار والأسلحة الضخمة المنتشرة معهم في الشوارع والتي تشكل قنابل موقوتة, وبناء قوي أمنية تحمي المواطن وليس حماية النظام, ومن المهم أن تتشكل قوات الجيش والشرطة من كل أبناء الشعب الليبي بعيدا عن الاختيارات القبلية والجهوية التي كان يوظفها القذافي في إرضاء القبائل لكسب دعمهم وتأييدهم له. إن معيار نجاح أية ثورة هو ليس في قدرتها علي الإطاحة بالنظام القديم وإنما الأهم في بناء النظام الجديد والتعلم من أخطاء الماضي وتوجيه الجهود والموارد صوب التنمية والتقدم والتطور ومنع ظهور مستبد آخر, لذا فإن ليبيا تقف الآن في مفترق طريق إما يقودها إلي الهاوية إذا اندلع الخلاف والصدام بين الثوار في محاولة كل طرف فرض رؤيته بالقوة لشكل ومستقبل الدولة وهويتها, وإما إلي طريق التنمية والتقدم حتي تكون الثورة الليبية بحق نموذجا يحتذي لبقية الثورات في العالم, لكن وبرغم الصعوبات والتحديات السياسية والاقتصادية التي تواجه الثوار, فإن ليبيا لن تكون أسوأ مما شهدته في عهد القذافي الذي ستكون نهايته عبرة للطغاة في الدول العربية خاصة في سوريا واليمن وليتهم يتعلمون الدرس قبل فوات الأوان. المزيد من مقالات احمد سيد احمد