بقلم: أمينة النقاش السبت , 27 أغسطس 2011 07:48 وصف «سعد الله ونوس» مسرحيته الشهيرة «الملك هو الملك» بأنها لعبة تشخيصية لتحليل بنية السلطة فى أنظمة التنكر والملكية، والمسرحية هى واحدة من الأعمال الفنية المهمة التى تحلل بنية السلطة الطبقية التى تتجمع آلياتها، لتحول الحاكم من فرد عادى، الى طاغية ، استلهم «ونوس» «الملك هو الملك» من حكايات هارون الرشيد فى ألف ليلة وليلة حين يصاب الحاكم بالملل، فيستدعى الندماء لمسامرته، والشعراء لكيل المديح له، أو يتنكر فى زى التجار ليتفقد مع وزرائه ومسئوليه أحوال الرعية، ومسرحية ونوس تحكى أمراً مشابهاً، حيث يشعر الملك بالضجر الشديد،فينزل الى الأسواق متنكراً، ويستبدل ملابسه مع أحد المغفلين من عامة الشعب، ويتبادل معه المواقع، فيتحول المغفل الى حاكم طاغية.، فيما يجن جنون الملك الذى فقد عرشه، وفى مشهد من مشاهد المسرحية، يعبر الملك قبل تنكره، عن ضجره قائلاً: إن هذه البلاد لا تستحقنى، أريد أن ألهو، أن ألعب لعبة شرسة لدى ميل شديد الى السخرية.. أن أسخر بعنف وبقسوة!. تذكرت هذا المشهد من المسرحية، وأنا أشاهد الثوار الليبيين، يدكون معقل الزعيم الليبى معمر القذافى فى باب العزيزية، ويمزقون صوره ويطلقون الرصاص على رأس تمثال له، ثم يدوسونه بالأقدام، مستحضرين الى الذاكرة مشهداً مماثلاً فى العاصمة العراقية، بغداد، بعد الغزو الأمريكى عام 2003، حين حطم المواطنون العراقيون تمثال «صدام حسين» وتقاذفوا رأس التمثال بأقدامهم وما يجمع بين الاثنين، القذافى وصدام حسين، ان كلاً منهما قد نصب نفسه زعيماً تاريخياً، وقائداً ملهماً، وانهما بددا ثروات بلديهما الطائلة فى مقامرات ومغامرات ترتدى ثوب البطولة، وأنهما قمعا شعبيهما قمعاً وحشياً، تحت وطأة ايمان راسخ بأن هذه البلاد وتلك الشعوب «لا تستحقهما»!. فعل الزعيم القذافى ذلك بالضبط، سخر من شعبه وإقليمه وعالمه بعنف وبقسوة، لأنه شأنه كل طاغية كان يظن ان هذه البلاد لا تستحقه ولعله كان يقول كما قال ملك سعد الله ونوس: «عندما أصغى الى هموم الناس الصغيرة وأرقب دورانهم حول الدرهم واللقمة تغمرنى متعة ماكرة... ففى حياتهم الزنخة طرافة لا يستطيع أى مهرج فى القصر ان يبتكر مثلها! أتيحت لى الفرصة لزيارة ليبيا أكثر من مرة، كانت الأولى منها فىمنتصف الثمانينيات من القرن الماضى، حين صاحبت المرحوم «لطفى واكد» فى وفد لحزب التجمع، للمشاركة فى احتفالات ليبيا بثورة 23 يوليو، كانت المقاطعة العربية لمصر علىأشدها مما اضطر الوفد الى السفر الىأثينا أولاً ومنها الى العاصمة الليبية طرابلس بعد ان توقفت خطوط الطيران المباشرة بين القاهرة والعواصم العربية بفعل المقاطع التى بدأت فى العام 1979، احتجاجاً على توقيع الرئيس السادات لاتفاقيات كامب ديفيد. مكثت مع «لطفى واكد» فى مطار طرابلس نحو ست ساعات أما السبب كما كشفه لنا فيما بعد أحد كبار المسئولين، فهو ان «اللجان الثورية» قد رفضت السماح لنا بالدخول الا بعد تدخل «القذافى» شخصياً لاننا قادمان من بلد «اسطبل داوود» وهو الاسم الذى كان القذافى يطلقه على اتفاقيات «كامب ديفيد» فى طرابلس تبين لى ان تعديل الاسم من «كامب ديفيد» الى «اسطبل داوود» هو الشكل الوحيد لمعارضة نظام القذافى للصلح المصرى الإسرائيلى المنفرد، عاصمة ليبا التى غير «القذافى» اسمها الى «الجماهيرية الليبية الاشتراكية العظمى» معزولة تماماً عما يجرى في العالم فالتشويش محكم على الاذاعات الدولية والتليفزيون الليبى لا يبث سوى خطب الزعيم وندوات تتحدث عن أفكاره الملهمة التى انطوى عليها «الكتاب الأخضر» الذى نسب الى «الأخ القائد» كما كان يلقبه الليبيون تأليفه مروجاً لما يسميه بعصر الجماهير والنظرية العالمية الثالثة، التى يفترض ان تكون شيئاً آخر غير النظامين الاشتراكى والرأسمالى، أسس القذافى داراً للنشر باسم الكتاب الأخضر وانفق مئات الملايين من الدولارات للترويج له ولنظريته الثالثة كان بينها عقد مؤتمر دولى فى العاصمة الفنزولية كاركاس لمناقشة الكتاب شارك فيه عرب وأوروبيون من محترفى التهريج وصناعة الطغاة وخاطبه «القذافى» من تحت خيمته فى مجمع باب العزيزية ولم تكن ثورة الاتصالات قد وصلت الى ما وصلت إليه الآن من تنوع وتجدد واختلاف فى الأساليب وامتداداً لثورته الخضراء، فقد تم صبغ أرض الميدان الرئيسى فى العاصمة طرابلس باللون الأخضر، وحملت احدى الصحف الليبية المتعددة والمتشابهة فى نفس الوقت اسم «الزحف الأخضر» وكانت تلك الصحف الدعائية الموجهة بفظاظة، تطبع ثم يجرى تخزينها فى مخازن ضخمة أعدت لذلك. كان السؤال الضخم الذي تراءى لنا أثناء هذه الزيارة الأولى ما الذى يمنع دولة نفطية ثرية، لا تعانى من أى مشاكل مع جوارها الاقليمى ان تكون دولة نامية متقدمة وحديثة وذات شأن على الخريطة الدولية؟ وجاءت الاجابات سريعة: شباب صغير موجه يدير اللجان الشعبية التى أوكل اليها القذافى عدداً من أوجه السلطة التنفيذية وهو شباب يفتقد لأى ثقافة سياسية من أى نوع، لا يعرف من الكتب سوى «الكتاب الأخضر» تقوده عقلية قبلية لا تستنكف اصدار احكام الاعدام للمخالفين فى الرأى وتنفيذها فى التوو اللحظة بعد أن أفرغ «القذافى» المجتمع الليبى من مؤسساته القضائية والتعليمية والثقافية والتربوية والاعلامية ولم ينس فى غمرة هذاالهدم والخراب ان يرسل بأبنائه وأبناء حاشيته لتلقى العلم فى الجامعات الأوروبية! فنادق ضخمة خالية من الزوار ولم يكن الحظر قد فرض بعد على ليبيا تديرها عمالة آسيوية، ومستشفيات خاوية من الأجهزة والمعدات الطبية ومدارس تفتح لتدريب الفتيات على حمل السلاح ربما لمواصلة تلبية هوس الزعيم بالحراسة النسائية له ومحلات تجارية فقيرة ومتواضعة يجرى تأميمها ومطاردة أصحابها فى لقمة عيشهم اليومى وأحياء كاملة فى قلب العاصمة تعانى من الفقر وقلة الإمكانيات وهجرة لا تتوقف من الليبيين الى الخارج وحياة غير مرئية يعيشها الليبيون غير الراضين عما يجرى بعيداً عن الانظار حيث تنتعش تحت الأرض تجارة للفيديو وللمشروبات الروحية وللمخدرات والأقراص المسكنة كما تجاورها بيوت البغاء. انشغل «الأخ القائد» بنفسه وببطولاته الوهمية واختزل ليبيا فى شخصه، واعتبرها جزءاً من إرثه هو وحاشيته وأبناؤه وتفرغ تماماً لمسرحياته الهزلية التى تبدأ بخيمة وجمل ولا تنتهى بدعمه للهنود الحمر ولجبهة مورو الإسلامية فى الفلبين، ولعدد من الطغاة الأفارقة وبتغييره لأسماء الأشهر الميلادية وبإغداقه الملايين من أموال الشعب الليبى لشراء الموالين والاتباع وبملاحقة معارضيه من القاهرة الى لندن وخطفهم وقتلهم وبمغامراته الارهابية فى اسقاط طائرات مدنية، وحين اطمأن تماماً ان ليبيا لم يعد بها ما يمت الى الدولة والمؤسسات بصلة تربع على سدة الحكم اكثر من اربعة عقود ليس برضاء الشعب ولكن بالقمع واحتكار السلطة وباشاعة الخوف وباعلام التزوير والتلفيق والتطبيل مصدقاً نفسه واوهامه من حفنة الألقاب التى حملها كأمين للقومية العربية وعميد للحكام العرب وملك ملوك افريقيا وقائد ثورة الفاتح ومفجر ثورة الكتاب الأخضر.. وأخيراً أمير المؤمنين! حين دك الثوار الليبيون معقل الأخ القائد الحصين فى باب العزيزية، فقد دكوا معه عهوداً لصمت كبير للشعوب العربية، التى لم يعد مقبولاً لديها بعد الآن، ان يكون اسم الحاكم مرادفاً لاسم الدولة وانها ستطوى الى الأبد نظام الرأى الواحد والحزب الواحد والقائد الملهم والقائد الضرورة والزعيم التاريخى وبسقوط القذافى وترنح «الأسد» تتهاوى دولة المزاعم والأكاذيب الكبرى ولم يبخل الشعب الليبى بالتضحة بنحو 25 ألفاً من أبنائه ليعيد ليبيا المختطفة الى واجهة العصر.