لم أستغرب عندما أعلن المستشار أحمد مكي نائب رئيس مجلس الدولة, في برنامج القاهرة اليوم أن القرار الذي اتخذته الجمعية العمومية للمجلس لم يكن ضد المرأة وإنما ضد محاولة الضغط علي المجلس لتعيين المرأة فيه وقد كان عمرو أديب موفقا تماما عندما أوضح له وللجمهور أن أي تغيير إيجابي في المجتمع أو الدولة لابد أن يأتي بالضغط علي الجهات المناوئة للتغيير, ما ظل الأمر في صالح المجتمع بوجه عام, ويؤدي إلي تقدم الدولة بأكثر من معني, وهذا أمر طبيعي ومحمود عندما يكون وعي النظام السياسي متقدما علي الوعي الاجتماعي العام, فلا يجد النظام السياسي, أو القيادة السياسية للدولة, مفرا من اتخاذ قرارات تهدف إلي تقدم المجتمع, حتي لو رفضها الكارهون لهذا التقدم حدث هذا في الولاياتالمتحدة, مثلا, حين انتزع الرئيس كيندي الموافقة من الكونجرس علي قانون الحقوق المدنية الذي فرضه علي دعاة العنصرية والتمييز غير الإنساني ضد السود, ولقد تبع إصدار القانون مجموعة من إجراءات التمييز الإيجابي التي فرضت نفسها علي أغلبية مناوئة في البداية, لكن مرور الأيام وتعاقب السنوات أثبتت أن الأمر كان في صالح التقدم الأمريكي الذي نشاهده اليوم, ولولا قانون حماية الحقوق المدنية وعمليات التمييز الإيجابي ما تغير الوعي السياسي للمجتمع الأمريكي, وما انتهي التمييز العنصري ضد السود, وما وصل أوباما إلي منصب الرئيس, وأصبح أول رئيس أسود للولايات المتحدة ولنتخيل الوضع الأمريكي لو لم تتدخل النخبة المثقفة في أمريكا التي كافحت بالفعل والقلم ضد تاريخ قمعي طويل من التمييز العنصري ضد السود, إلي أن استطاعت إقناع السلطة الحاكمة باتخاذ قرار رفضته, طبعا, الأغلبية المؤمنة بالتمييز, لكن القرار أحدث تأثيره مع الوقت, فأصبح أبناء المتعصبين, عرقيا, يباهون بأن رئيسهم أسود, معتبرين أن انتخابه ذروة الديمقراطية. ومن المؤكد أن أغلب الدساتير العربية, علي امتداد الأقطار العربية, عندما أقرت مبدأ المساواة أمام القانون والدستور, وقرنت المواطنة بالمساواة في الحقوق والواجبات, دون تمييز علي أساس من الدين أو العرق أو الجنس أو اللغة, إنما كانت تفرض واقعا إيجابيا, انحازت فيه السلطة السياسية إلي رأي النخب المثقفة التي لم تكف عن النضال من أجل تأكيد لوازم المواطنة حتي ضد السلطة السياسية التي تنسي, أحيانا, الدور المنوط بها دستوريا ولولا ضغط الأنظمة السياسية التي ابتليت بوعي اجتماعي متخلف, ثقافته السائدة معادية للتقدم نتيجة شروط تاريخية, ما وصلت دول هذه الأنظمة إلي ما وصلت إليه من إنجازات في مجال الحقوق المدنية وأحسبني في حاجة إلي تذكير القراء بالإجراءات التي اتخذتها حكومات مثل الكويت والسعودية وتونس والمغرب والسودان واليمن وغيرها من البلدان التي أصبحت فيها المرأة أفضل مكانة مما كانت, ونجحت ثماني دول عربية في جعل المرأة قاضية, تحقيقا للعدل والمساواة وغيرها من المبادئ التي تعنيها المواطنة ويقرها الدستور وكان هذا الدافع نفسه هو السبب في قرار الكوتة الخاصة بزيادة نسبة تمثيل المرأة في البرلمان المصري, وذلك استشرافا لمستقبل أفضل للمجتمع كله, رجالا ونساء, حتي لو كره الكارهون الذين سوف تجبرهم التجربة علي قبولها في المستقبل عندما يرون نتائجها الإيجابية في الغد الذي لا يراه من جعلت التقاليد الجامدة أعينهم في قفاهم لا في وجوههم, خصوصا بعد أن أصبحت عقولهم عاجزة عن التفكير في المستقبل لأنها مشدودة بحبال قوية إلي الماضي المتخلف نعم أصدر القضاة أكثر من بحث عندما سمعوا عن محاولة تعيين امرأة قاضية في المحكمة الدستورية العليا, وقد حدث, وكان تعيين تهاني الجبالي حادثا صدم الكثيرين من هؤلاء المعارضين ولكن تهاني الجبالي أثبتت بنجاحها أن الضغط الذي مارسه النظام السياسي لتعيينها, والدعم الذي دعم به هذا القرار رجال عظام مثل الصديق المرحوم فتحي نجيب كان هو الحق عينه, وأن نتائجه الإيجابية نراها الآن, في تعيين أكثر من أربعين قاضية في القضاء العادي, كثير منهن فخر لوطنهن ودينهن ودستور بلادهن, ولولا ضغط النخبة المثقفة التي استجاب لها النظام السياسي, وساندها المجلس القومي للمرأة, لما حدث ذلك. وكلي ثقة أن عجلة التقدم ماضية إلي الأمام, ولن يوقفها أحد, خصوصا بعد أن أكد ثقاة العلم الديني أنه لا موانع شرعية تحول دون تعيين المرأة, وحقيقة أن بلدا إسلاميا مثل باكستان سبقنا إلي تعيين المرأة قاضية منذ سنة1972 علي ما أذكر ولحسن الحظ أن من بين القضاة المستنيرين من نبهنا إلي ذلك مثل المستشار محمد كامل نائب رئيس محكمة استئناف القاهرة, فضلا عن الدكتور محمد أبو شقة, وغيرهما كثير من مستنيري رجال القانون والقضاة الذين هم أمل مصر الحزينة في مستقبل قضائي ودستوري أفضل, يحقق معاني حقيقية عادلة لمبدأ المواطنة في دولة مدنية لا دينية. أما عن فكرة المواءمة التي يتزرع بها البعض, وأن المجتمع المصري لم يصل, بعد, إلي درجة التقدم التي تسمح بتعيين المرأة قاضية, فماذا يقولون في زمن أصبحت فيه المرأة المصرية وزيرة وسفيرة ورئيسة جامعة وطبيبة ومهندسة ورئيسة مجالس إدارة ومحامية وقاضية فعلا وما رأيكم أيها القراء الأعزاء أن بعض المستنيرين من رجال القانون أخبرني أن بعض بنات المستشارين الذين صوتوا بالسلب ضد المرأة في مجلس الدولة هم قاضيات فعلا, ويشهد لهن الجميع بالكفاءة, فلماذا هذه الازدواجية العجيبة, أحلال علي بناتكم حرام علي بنات غيركم؟ أما حجة الذود عن القرار الذي لن يسجله التاريخ بأحرف من نور بأن ما حدث في مجلس الدولة شأن داخلي, وأن مجلس الدولة حر في قراره, أو أنه صاحب قراره, أو أن قراراته شأن لا علاقة لغيره به, فهذا كلام لا تقبله العقول السليمة, لعدة أسباب أولها أن إصلاح ما رأته الجمعية العمومية بأنه نتيجة ضغط علي رئيس المجلس هو من قبيل الخطأ الأصغر الذي لن يصلحه خطأ أكبر وأشد فداحة وثانيها أن القرار الذي اتخذ ليس شأنا داخليا ما ظل يمس حقوق المواطنة والحقوق التي كفلها الدستور للمرأة, ولم يميز بينها والرجل في الحقوق والواجبات, ولذلك فالقرار الذي اتخذته الجمعية العمومية لمجلس الدولة ليس شأنا داخليا, وليس دفاعا عن استقلال قرار المجلس, بعيدا عن أي ضغط خارجي, وإنما هو اعتداء علي الدستور, وإعلان صريح للوقوف ضد الدولة, وضد كل النخب المستنيرة في المجتمع رجالا ونساء ولذلك سيظل هذا القرار معلقا في رقبة من حاولوا الدفاع عنه ومن حضوا عليه بدعوي لا محل لها من الإعراب, وهي الحفاظ علي استقلال قرار المجلس وشأنه الداخلي وأعترف, وليسامحني أعضاء الجمعية الذين أعلنوا ذلك, أنني ضحكت من حزني, فكيف يليق بعقول صفوة منتقاة أن تدافع عن ما لا تملك بما ليس بحق, وأن تسم بالشأن الداخلي ما يمس كل فتاة مصرية, ليس هذا فحسب, بل ما هو, علي نحو مباشر, تعريض غير مباشر بقاضية في المحكمة الدستورية العليا التي هي أعلي مراتب القضاء, في القضاء المصري ذي التاريخ العظيم الذي يفخر به كل مصري ومصرية يعرفان تاريخ هذا القضاء وأخيرا, فإن قرار الجمعية العمومية تعريض غير مباشر, بالقدر نفسه, بثلاثة وأربعين قاضية مصرية, يمارسن عملهن بما يرضي الله ثم الدستور والقانون, وليس قرار الجمعية العمومية الأخيرة لمجلس الدولة, من هذا المنظور, سوي اعتداء غير مباشر علي الدولة المدنية في صميم وجودها, والدستور وتاريخ المجلس نفسه, فهل هذا وضع يليق بصفوة من النخبة الثقافية المصرية؟ وهل أكون مبالغا, بعد ذلك, لو قلت إن هذا القرار السلبي تعريض غير مباشر ونكران فادح لجميل أستاذات الجامعات المصرية, أمثال عائشة راتب, اللائي جلس منهن عدد لا بأس به من أعضاء الجمعية العمومية مجلس التلمذة والسؤال المحزن الأخير هو كيف تكون أستاذات, الأمس, غير صالحات, اليوم, للعمل في مجلس هن أسهمن في تخريج أجياله هل هذا منطق يقبله عقل سليم, في بلد, صدق علي كل القوانين والمواثيق الدولية المطالبة بإلغاء كل أشكال التمييز ضد المرأة؟!!!