لأن روايات خيري شلبي المتفردة بعمق تصويرها لحياة المهمشين في قري مصر ومدنها علي السواء هي التي ظلت مستأثرة باهتمام القراء والنقاد, فقد آثرت في هذا المقال أن أصحب القارئ في زيارة خاطفة لعالم القصة القصيرة عند خيري شلبي الذي ربما لم ينل ما يستحقه من اهتمام القراء والنقاد مع أنه يصدر من النبع الصافي العميق ذاته! في القصص القصيرة لخيري شلبي سوف تلتقي بالعديد من المهمشين الذين التقيت بهم في رواياته, في عشوائيات المدن والقري, وسوف يسردون لك حكاياتهم باللهجة نفسها التي يتكلمون بها بعضهم لبعض أو لأنفسهم, وهذه سمة من السمات المميزة لروايات خيري شلبي وقصصه القصيرة علي السواء ولكن نزعة الحكي القوية في روايات خيري شلبي تتراجع قليلا أو كثيرا في قصصه القصيرة ربما خضوعا لقانون القصة القصيرة التي يقول عنها الناقد وكاتب القصة الإيرلندي فرانك اوكونورفي الصوت المنفرد إنها الأدب الخالص, يعني الذي لا يحتمل الثرثرة أو الغنائية التي يمكن أن تحتملها الرواية, ويقدم أوكونور نموذجا مقتبسا من حياة بارنيل ومن قصة ج.د. سالينجر للإيجاز الذي ينبغي أن تكون عليه القصة القصيرة فيقول: إنها قصة زوج مخدوع يسأل تليفونيا أعز صديق له عن زوجته التي تأخرت في الخارج دون أن يشك للحظة في أن الزوجة موجودة في فراش أعز الأصدقاء هذا ويسري أعز الأصدقاء عنه بطريقة جافة معدة, وأخيرا يتصل الزوج المخدوع مرة أخري, ذلك الرجل الطيب الذي ربما خجل من اعترافه المتسرع, وربما من إزعاجه لصديقه ليقول إن زوجته عادت إلي المنزل مع أنها كانت لا تزال في الفراش مع عشيقها فالقصة القصيرة باختصار هي التي تحدث أعمق الأثر بأقل قدر من الكلمات. وحين نلقي نظرة طائرة علي القصص القصيرة الموزعة في مجموعات خيري شلبي القصصية التي من أهمها أسباب للكي بالنار الدساس, سارق الفرح, عدل المسامير, تقليب المراجع, ما ليس يضمنه فلعلنا نلاحظ أن هذه القصص يمكن أن تتوزع بين ثلاثة مستويات مستوي يستجيب لشروط القصة القصيرة كما حددها أكونور وتستحق أن يقال عنها إنها الأدب الخالص ومستوي يحاول الاستجابة لشروط القصة القصيرة, ولكنه يقع في غواية الحكي الآسرة عند خيري شلبي فتبدو القصة القصيرة وكأنها جزء سقط سهوا من رواية كان يكتبها خيري شلبي ثم لم يستكملها لأي سبب ومستوي ينجح فيه خيري شلبي في أن يوظف نزعة الحكي في خدمة شروط القصة القصيرة حيث يصبح الحكي أدبا خالصا لأنه يجسد لحظات صحو ذاكرة مقموعة لم تجد طريقا للنجاة من عصف الألم سوي النسيان. وسوف نكتفي في حدود هذا المقال بتقديم قصة قصيرة لكل مستوي من هذه المستويات. وكنموذج للمستوي الأول الذي تصبح فيه القصة القصيرة أدبا خالصا نقدم قصة بعنوان بتاعة الحلاوه القصة مقدمة من خلال شاب يعمل مدرسا في كلية طب المنصورة في طريقه إلي باب الكلية يلحق بعجوز تمشي ببطء يرغم السيارات علي انتظارها, تحمل فوق رأسها قفة صغيرة مغطاة بثوب قديم, حين يراها عن قرب يتأكد له أنها هي نفسها أم صلاح التي كانت تبيع الحلوي لأطفال المدرسة التي كان تلميذا بها بالقرية مع ابنها صلاح الذي هو الآن زميل له في كلية الطب, هو لم يرها منذ تلك السنوات, ولا يعرف شيئا عن علاقتها بابنها, ويكون من الطبيعي أن يستعيد زمالته لصلاح في الإعدادي والثانوي وكيف أوصله نبوغه إلي كلية الطب, وكيف كان أهل القرية, بخاصة اغنياءها الذين لم ينجح أبناؤهم في الحصول علي مجموع يؤهلهم لكلية الطب ينظرون إلي هذا التفوق! حين لحق بها كانت تعيد علي مسامعه السؤال الذي لم تجد من يشفي غليلها بالرد عليه والنبي ياسعادة البك ما تعرفش تلميذ هنا اسمه صلاح البدوي؟ فيرد قائلا مبتسما: تقصدين الدكتور صلاح؟ فتقول: طب والنبي تقول له: فيه واحدة مستنياك بره يقول لها: حضرتك أمه؟! ترد وهي مرتبكة: لأ لأ بس قل له وهو حيعرف؟ يصيح فيها: أقول له مين يعني؟ ترد: قل له جارتكم بتاعة الحلاوة! هل تحتاج مثل هذه القصة إلي أي تعليق لمتابعة ما توحي به من دلالات في كل الاتجاهات ؟ أليس هذا هو الأدب الخالص؟ أعمق تأثير بأقل قدر من الكلمات يمكن أن نشير إلي قصة السلعوة كنموذج للمستوي الثاني, وهو المستوي الذي يستجيب لشروط القصة القصيرة ولكنه يقع في غواية الحكي فيضيف إلي القصة الأصلية ما قد لا تكون في أي حاجة إليه ولكنها غواية الحكي سامحها الله فتبدو القصة وكأنها جزء من رواية لم تكتمل. الفكرة المحورية في القصة هي كيف تولد الأسطورة من امتزاج الخوف بالجهل, والحدث الذي يجسد الفكرة هو أن كلبة يزيد الطيبة والشجاعة والغلبانه في الوقت ذاته والتي هي في الوقت ذاته كلبة العمدة الذي بات يحمل بعض هذه الصفات بعد أن تغيرت أحوال الناس وبعد أن سافر الغلابة الذين لم يكونوا شيئا يذكر بالنسبة لجناب العمدة إلي بلاد النفط وعادوا ليشمخوا عليه بأنوفهم ويبنوا بيوتا وسرايات جديدة تفوق بيته الذي كان أعظم البيوت في القرية, فجأة تفزع القرية إلي العمدة وهي تتحدث عن كارثة عظمي تهدد الناس جميعا هي ظهور السلعوة, وكل واحد يتحدث عما قتلت من طيور وحيوانات وروعت من صغار وكبار يأمر العمدة الخفر بأن يطلقوا النار علي أي جسم يتحرك في الليل أو في النهار, فتتعدد مصادر الخوف والفزع وحين يلوح أنهم قتلوا السلعوة, فيكتشفون أنهم لم يقتلوا سوي كلبة يزيد الطيبة والشجاعة والغلبانة مثل صاحبها العمدة وأن الكلبة التي انحشر رأسها في آنية فخارية كانت تلحس ما بداخلها من سمن, ولم تعد تعرف كيف تتخلص من هذا المأزق هي التي أحدثت في جريها المتخبط والمذعور كل هذا الفزع الأكبر. القصة الأصلية للسلعوة تغرق في الحكي كما غرق العمدة في أفواج القادمين من بلاد النفط والتي هي دون جدال رواية لم تكتمل أما المستوي الثالث فهو الذي تتحقق فيه معجزة التلاؤم بين روعة الحكاية وشروط القصة القصيرة وهي تتمثل في قصة الساقه فهذه القصة الرائعة التي لا تخرج عن كونها مجرد وصف متعدد الدرجات والمراحل لطوابير الأنفار التي كانت تعمل في الوسية, هذه المصطلحات التي أصبحت جزءا من التاريخ... هذه القصة القصيرة الطويلة الرائعة تكاد تقدم تاريخ المجتمع المصري الذي يقع في آلاف السنين فحين تكون الذاكرة هي التي تقطع هذه المسافات, وهي التي تري الوسية تتسع بحجم الوطن, والتي تكتشف انه يوجد بين الأنفار طبقات تفصل بين الطويل والقصير والصحيح والعليل, وأنه يوجد بين رؤسائهم وجلاديهم طبقات تفصل بين الخولي والباش خولي والمفتش والناظر, أصحاب الوسية وحدهم والذين لا يراهم أحد هم الذين يبدو بسبب الغياب أنهم طبقة واحدة. حين يكون كل ذلك من ألعاب الذاكرة فإن كل غوايات الحكي تصبح بعضا من شروط القصة القصيرة! المزيد من مقالات أبو المعاطى أبو النجا