الجبلاوي: الرئيس السيسي حافظ على سيناء بالنهضة والتعمير ومحاربة الإرهاب    وزير التعليم العالي يهنئ رئيس الجمهورية والشعب المصري بذكرى تحرير سيناء    استمرار انعقاد الجلسات العلمية لمؤتمر كلية الطب البيطري بجامعة كفر الشيخ    البداية من فجر الجمعة.. تعرف على مواقيت الصلاة بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024    محافظ القليوبية يوجه باستغلال الجزر الوسطى بإقامة أنشطة استثمارية للشباب    برلماني: مصر تبنت خطة تنموية شاملة ومتكاملة في سيناء    وزير التنمية المحلية يتابع مع البنك الدولى الموقف التنفيذي لبرنامج التنمية المحلية بصعيد مصر    انقطاع الاتصالات والإنترنت عن وسط وجنوب غزة    الدفاع المدني بغزة: الاحتلال يستخدم أساليبًا إجرامية بحق المدنيين العزل    عمارة: كلمة الرئيس فى ذكري تحرير سيناء حملت رسائل قوية من أجل الاستقرار والسلام    صحيفة: ليفربول يعلن سلوت مديرًا فنيًا للفريق نهاية الأسبوع    النيابة تأمر بتفريغ كاميرات المراقبة فى ضبط عصابة سرقة الشقق السكنية ببدر    إهناسيا التعليمية ببني سويف تنظم مراجعات شاملة لطلاب الثالث الثانوي (تفاصيل)    «بنات ألفة» يحصد جائزة أفضل فيلم طويل ب«أسوان لسينما المرأة» في دورته الثامنة    إيهاب فهمي عن أشرف عبدالغفور: أسعد أجيالًا وخلد ذكراه في قلوب محبيه    تامر حسني وأنغام نجوم حفل عيد تحرير سيناء بالعاصمة الإدارية    «الرعاية الصحية» تستعرض إنجازات منظومة التأمين الصحي الشامل بجنوب سيناء «انفوجراف»    عودة ثنائي الإسماعيلي أمام الأهلي في الدوري    الدورة 15 لحوار بتسبيرج للمناخ بألمانيا.. وزيرة البيئة تعقب فى الجلسة الأفتتاحية عن مصداقية تمويل المناخ    ضمن الموجة ال22.. إزالة 5 حالات بناء مخالف في الإسكندرية    السيطرة على حريق نشب أمام ديوان عام محافظة بني سويف    مصادرة 569 كيلو لحوم ودواجن وأسماك مدخنة مجهولة المصدر بالغربية    إصابة سيدة وأبنائها في حادث انقلاب سيارة ملاكي بالدقهلية    التحقيق مع المتهم بالتحرش بابنته جنسيا في حدائق أكتوبر    تحرير 498 مخالفة مرورية لردع قائدي السيارات والمركبات بالغربية    الأردن يدين سماح الشرطة الإسرائيلية للمستوطنين باقتحام الأقصى    «المحامين» تعلن موعد جلسة حلف اليمين القانونية للأعضاء الجدد بجميع الفرعيات    أنطوي: أطمح للفوز على الزمالك والتتويج بالكونفدرالية    رد فعل غير متوقع من منة تيسير إذا تبدل ابنها مع أسرة آخرى.. فيديو    تشافي يبرّر البقاء مدربًا في برشلونة ثقة لابورتا ودعم اللاعبين أقنعاني بالبقاء    علماء يحذرون: الاحتباس الحراري السبب في انتشار مرضي الملاريا وحمى الضنك    كيفية الوقاية من ضربة الشمس في فصل الصيف    الكرملين يعلق على توريد صواريخ "أتاكمز" إلى أوكرانيا    وزارة العمل تنظم فعاليات «سلامتك تهمنا» بمنشآت السويس    خبيرة فلك: مواليد اليوم 25 إبريل رمز للصمود    عقب سحب «تنظيم الجنازات».. «إمام»: أدعم العمل الصحفي بعيداً عن إجراءات قد تُفهم على أنها تقييد للحريات    جدول امتحانات الصف الأول الثانوي للفصل الدراسي الثاني 2024 محافظة القاهرة    أحدهما بيلينجهام.. إصابة ثنائي ريال مدريد قبل مواجهة بايرن ميونخ    محافظ كفر الشيخ يتابع أعمال تطوير منظومة الإنارة العامة في الرياض وبلطيم    انعقاد النسخة الخامسة لمؤتمر المصريين بالخارج 4 أغسطس المقبل    أبورجيلة: فوجئت بتكريم النادي الأهلي.. ومتفائل بقدرة الزمالك على تخطي عقبة دريمز    أمين الفتوى لزوجة: اطلقى لو زوجك لم يبطل مخدرات    رئيس المنصورة: أتمنى أن يحظى الفريق بدعم كبير.. ونأمل في الصعود للممتاز    بيلاروسيا: في حال تعرّض بيلاروسيا لهجوم فإن مينسك وموسكو ستردّان بكل أنواع الأسلحة    رئيس البرلمان العربي يهنئ مصر والسيسي بالذكرى الثانية والأربعين لتحرير سيناء    7 مشروبات تساعد على التخلص من آلام القولون العصبي.. بينها الشمر والكمون    «التعليم» تستعرض تجربة تطوير التعليم بالمؤتمر الإقليمي للإنتاج المعرفي    موعد مباراة الزمالك وشبيبة أمل سكيكدة الجزائري في نصف نهائي كأس الكؤوس لليد    محافظ الجيزة يهنئ الرئيس السيسي بالذكرى ال42 لعيد تحرير سيناء    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس25-4-2024    أمر عجيب يحدث عندما تردد "لا إله إلا الله" في الصباح والمساء    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    هيئة الرعاية بالأقصر تعلن رفع درجة الاستعداد تزامنا مع خطة تأمين ذكرى تحرير سيناء    حدث ليلا.. تزايد احتجاجات الجامعات الأمريكية دعما لفلسطين    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حياة صنعتها نوبات الهوس والكتابة
نشر في أخبار الأدب يوم 13 - 06 - 2015

وصف الأمراض في أعمال كاتب ما، لا يعني بالضرورة أنه يعاني من هذه الأمراض. بالإضافة لحقيقة عدم وجود أي علامة علي الفصام في حياة هدايت. وأرجع بعض الباحثين وجود الموضوعات الاكتئابية في أعمال هدايت إلي وجود مشكلة داخلية لديه بالإضافة لمعاناته من الاكتئاب.
من بين الكُتّاب الإيرانيين المعاصرين، جذب صادق هدايت قدرًا كبيرًا من الاهتمام محليًا ودوليًا؛ بين القراء والباحثين، وذلك لطبيعة أعماله وشخصيته. لم يسبق أن خضعت أعمال وشخصية كاتب إيراني آخر للاختبار متعدد الأبعاد، ويرجع ذلك لوجود بعض السمات المميزة، مثل عبقرية هدايت، غرابة أعماله، حياته وطريقة موته.
فبالإضافة إلي التفسيرات والنقد الأدبي، من الملحوظ دائمًا وجود تفسيرات سيكولوجية وطب نفسية واجتماعية لشخصية وأعمال هدايت. ولإدراك السمات النفسية والطب نفسية المميزة لهدايت، تمت دراسة أعماله واستخلاص بعض النتائج من ذلك. لكن بدا أن مثل هذا المنهج غير قادر علي الإحاطة بطبيعة شخصية الكاتب أو الإسهام في توفير تصور للحالة الصحية الذهنية والنفسية، وذلك لأن الفنان قادر علي الوصول إلي والإبحار عبر الأجزاء المختلفة للجهاز النفسي من السطح لأعمق مستوي فيه، وذلك دون أن يفقد الارتباط بالواقع.
وحقيقة، فهذا هو الدافع وراء العديد من التوصيفات لمختلف أنواع التفكير والانفعالات والسلوكيات الطبيعة وغير الطبيعية للعديد من الأدباء المشهورين (رجال ونساء)، بغض النظر عن عدم معاناة أي منهم من المرض العقلي أو الخلل النفسي. وهكذا فإن محاولة التعرف علي الفنان فقط من خلال محتوي أو بناء عمله/عملها، غير كاف بالتأكيد من الناحية العلمية. ويشير بعض الباحثين إلي دور العوامل السياسية والاجتماعية، بالإضافة إلي الأوضاع الحياتية؛ باعتبارها عوامل مهمة ومؤثرة في عملية الإبداع الفني.
وبينما لا يمكن التغافل عن هذه العوامل، فلا يمكن اعتبارها الأكثر أهمية كذلك. وفيما يخص صادق هدايت، ووفقًا لبعض الباحثين، فإن وجود المرض والوهن والاضمحلال أو الموت في أعماله يعود لوجود مثل هذه العناصر خلال تلك الفترة. لكن مثل هذا التفسير يبدو قاصرًا وغير كافٍ.
فلو صح مثل هذا التفسير، لماذا لم تظهر هذه العناصر في أعمال كتاب إيرانيين من معاصريه، ولماذا نسب الاكتئاب والانتحار بين الإيرانيين لا تتجاوز سواها في باقي أنحاء العالم. بالإضافة، كتابة هدايت للعديد من القصص والمقالات الساخرة، بما يرشح أنه بين الحين والآخر كان في حالة مزاجية سعيدة ومبتهجة.
وبعض الباحثين، سواء كانوا أطباء أم لا، ممن يفتقرون للقدر الكافي من المعرفة الأدبية أو العلمية والقدرة علي التحليل المعمق، أساءوا تشخيص حالة صادق هدايت، بعد قراءة سطحية لأعماله، بأنه مصاب بالفصام.
جدير ذكر أن وصف الأمراض في أعمال كاتب ما، لا يعني بالضرورة أنه يعاني من هذه الأمراض. بالإضافة لحقيقة عدم وجود أي علامة علي الفصام في حياة هدايت. وأرجع بعض الباحثين وجود الموضوعات الاكتئابية في أعمال هدايت إلي وجود مشكلة داخلية لديه بالإضافة لمعاناته من الاكتئاب.
ورغم صحة استنتاجاتهم جزئيًا، فإنها تظل غير كافية للإجابة علي التناقض الناتج عن وصف أصدقاء هدايت له بأنه مرح ومبتهج وحسن الانتباه والتفكير ومفعم بالحياة والنشاط وكذلك كريم.
وحقيقة، مثل هذه النوبات السلوكية غير متوقعة في حالات الاكتئاب البسيطة. وخلال العقد الأخير من القرن العشرين، ركز الباحثون علي الوجود المحتمل للاضطرابات العقلية بين الفنانين. ولقد كشفت الأبحاث والسير والسجلات الطبية ورسائل الفنانين، أنه بين الفنانين بعامة، وبين الكتاب والشعراء بخاصة، تتجاوز نسب المرض النفسي مثيلاتها بين عموم الناس.
وعلي سبيل المثال، فقلد أمضي د. فليكس بوست، الطبيب النفسي البريطاني الشهير، عشر سنوات في البحث عن وجود اضطرابات ذهنية بين 300 شخص مختارين بعناية وفقًا للمعايير الصارمة الخاصة به (بالإضافة إلي التمتع بالشهرة الطاغية والانجاز الكبير) خلال المائة وخمسين عامًا الماضية. وتم وضع تلك الشخصيات في 6 مجموعات تضم العلماء والفلاسفة والأكاديميين والسياسيين والفنانين الرمزيين والموسيقيين والكتاب. واستخلص د. بوست أنه بينما المرض النفسي أقل من المتوسط في انتشاره بين عامة الناس، فإنه يتزايد في المقابل بين المجموعات المشار لها سابقًا. فعلي سبيل المثال، فإن الاكتئاب بين الفنانين، وخاصة بين الكتاب، مرتفع. ووفقًا لأبحاثه، حوالي 72٪ من الكتاب عانوا من أحد أنواع الاكتئاب.
ولاحقًا تم الانتباه إلي أن د. بوست قد تجاوز نقط مهمة، وهي النوبات الإبداعية للكتاب، والتي عادة ما تكون مصاحبة ببعض من غرابة الأطوار.
لم يقم د. بوست بتحديد تلك النوبات، والتي عند تقييمها، تبدو مشابهة لنوبات من الهوس وما دونها وصولًا إلي ما يمكن اعتبارها نوبات من الاعتدال (الاضطراب ثنائي القطبية من النوع الأول والثاني). ولا يعتبر الفنانون مثل هذه النوبات غير طبيعية أو مرضية. كذلك، فإن المحيطين بهم يعتبرون هذه النوبات من أعراض السلوك والمزاج الفني.
وبشكل عام، لا يتعامل مرضي "الاضطرابات ثنائية القطبية" مع نوبات الهوس والاعتدال بوصفها خللًا أو اضطرابًا، بل إنهم خلال حالات الاستقرار النفسي يميلون للعودة إلي حالات النشاط والانفعالات المفرطة. ويرون أن نوبات الاكتئاب هي التي تحتاج العلاج. وبالنسبة للفنانين الذين يعانون من الاضطرابات ثنائية القطبية، فإنهم يمرون بفترات طويلة من الاكتئاب العميق والذي يحل محله بعد فترة حالة من الهوس (النوع الأول من الاضطراب ثنائي القطبية)، أو الاعتدال والابتهاج (النوع الثاني).
وفي بحث لكاتب هذا المقال، تم نشره عام 1998 في طهران، فإن معدل اضطرابات المزاج، خاصة الاضطرابات ثنائية القطبية، مرتفعة بشكل واضح بين الفنانين الإيرانيين. وكانت هذه بداية التفكير في مدي إصابة صادق هدايت بالاضطرابات ثنائية القطبية خاصة النوع الثاني منه أو الطيف ثنائي القطبية.
رسائل وحوارات
تتكون المواد التي تمت دراستها من معلومات وأدلة ثابتة عن حياة وسلوكيات صادق هدايت، ومن بينها أحاديث وكتابات عن حياته الخاصة، وما قاله أهله وأصدقاؤه عنه. كذلك الرسائل المتبادلة بينه وبين أسرته وأصدقائه، والسجلات الطبية، وصوره.
وبالإضافة لما سبق، أُخذ في الاعتبار عدد الأعمال المنتجة خلال فترات بعينها.
ومن بين العدد الهائل من المستندات التي تم فحصها وتقييمها، سأستعرض هنا عددًا محدودًا منها، كالتالي:
في حوار بين ابن عمه "حسين غوليخان هدايت" وبين إسماعيل جامشيدي، نقل عن والدة صادق هدايت قولها "هذا الطفل عبقري"، وأنها كذلك قالت لابنها ذات مرة "عبقريتك ستؤدي بك إلي الجنون."
وحقيقةً، فخلال طفولته، ودون سبب واضح، كان مختلفًا عن باقي أفراد أسرته. فخلال الدراسة نشر صحيفة حائطية بعنوان "صوت الموت".
كشف عيسي هدايت، الأخ الأكبر لصادق هدايت، ملابسات أول محاولة انتحار لأخيه: "كان ذلك في عام 1928، عندما جاء صادق فجأة لزيارتي، حينها كنت أقيم في فونتاين بلو. تناولنا طعام الغداء سويًا، ثم اصطحبته إلي ساموي التي يمر بها نهر مارني. تجولنا، ثم جلسنا بالمقهي عند مغيب الشمس. وبعدها ودعني ورحل. وخلال وداعه لي، كانت نظرته هادئة وواثقة." وعند عودة عيسي هدايت لمنزله في منتصف الليل، وجد قوات الشرطة قد أحضرت أخيه صادق الذي حاول إغراق نفسه في نهر مارني. وحينئذ اكتشف عيسي أن أخاه قبيل الانتحار كان قد ودع سرًا العديد من الأشخاص. صباح اليوم التالي، تلقي عيسي اتصالًا هاتفيًا من السفير الإيراني في فرنسا حينها "حسين علا" الذي طلب منه ضرورة أن يري صادق في أقرب وقت ممكن، ليعرضه علي متخصص في الطب النفسي.
وبعد فحصه، قال الطبيب النفسي إن صادق يري العالم من خلف نظارة سوداء، وأكد أنه يعاني من الاكتئاب.
في عمر الثالثة والعشرين، في رسالة لصديقه د. رازاوي، كتب: "إذا أردت أن ترسل لي بطاقة بريدية، فاختر واحدة داكنة وكئيبة وبشعة، لأنها تعجبني هكذا."
كل هذه الشهادات تؤكد اختلافه عن أقرانه في السلوك والحالة المزاجية، ورشحت إصابته بالاكتئاب. لكن علي الجانب الآخر، أكدت أنه كان يمر بفترات من السعادة والبهجة والنشاط.
وكتب د. خانلاري عن هدايت: "مَن كانوا يرونه في الاحتفالات والحفلات، ظنوه سعيدًا دون أدني انتباه أو اعتبار لأي شيء آخر."
كذلك كتب صديق آخر له، بوزورج علاوي، "قليلون من عرفوه حق المعرفة. فشخصيته الحقيقية كانت مختفية أسفل ستارة من اللامبالاة والطيش."
وكتب توراج فارازماند، صديق مقرب لصادق هدايت: أحيانًا كان يسيء التصرف لدرجة تورطه في مشاجرات والذهاب إلي قسم الشرطة. كذلك كان أحيانًا يزور أكثر الأماكن وضاعة وقذارة وفحشًا."
كان صادق هدايت شخصًا مبذرًا، واعتاد إنفاق أمواله دون حساب. وكان يميل في الغالب لقضاء الوقت بصحبة أصدقائه.
ومثل هذه السلوكيات والحالات المزاجية التي لا يمكن تصنيفها بالتأكيد ضمن أعراض الاكتئاب، بل إنها تتعارض معه، من منظور الطب النفسي، من الممكن اعتبارها بمثابة فترات من الاعتدال السلوكي والهوس؛ دورية الحدوث بين فترات الاكتئاب.
وخلال واحدة من نوبات الاكتئاب، تناول صادق هدايت خليطًا من الكحول والحشيش ليقتل نفسه، لكن أصدقاءه أنقذوه.
وبينما ذهبت بعض الأبحاث لاعتبار مفاهيم وأفكار كتابات صادق هدايت بمثابة دليل علي اكتئابه، فإنني أميل لتأكيد، كما ذكرت سابقًا، أن اقتصار الدراسة والتقييم علي محتويات أعمال فنان ما بهدف الوصول لتشخيص حول حالته النفسية، لا يكفي ولا يعد أداة دقيقة. بالإضافة إلي ضرورة ملاحظة أن محتويات قصص صادق هدايت مختلفة. فرغم أن معظم أعماله قاتمة وحزينة، فهناك أخري فكاهية وطريفة وتشي بحالة مزاجية مبتهجة، ومنها علي سبيل المثال القصص القصيرة الساخرة التي كتبها بالتعاون مع مسعود فارزاد وحسن غايمان، ونشرت تحت عنوان "بيان". كذلك فإن بعض قصصه الواقعية مثل "حاج أغا"، تظهر بها روح الدعابة، بما يشي بتمتع الكاتب بشخصية مرحة.
وفي قصة (مدفع اللؤلؤ) نصب في ساحة أرك بطهران، كانت النساء غير المتزوجات قصدنه لقراءة الحظ، بوسعنا رؤية شخصية سعيدة وحيوية تمر بحالات من الهوس، حيث التداعي السريع للأفكار، والتفاصيل الدقيقة، الترابط، والهوس بالشئون الجنسية.
وبمرور الزمن، أصبحت نوبات الاكتئاب أطول بشكل واضح، بما رشح دخوله المسار المحتوم لحالة الاضطراب العقلي ثنائي القطبية. ولقد كتب خانلاري، صديقه المقرب، عن السنوات الأخيرة في حياة صادق هدايت: "أحيانًا كان يجلس ساكنًا ساكتًا، وعلي وجهه تلك الابتسامة بادية المرارة والازدراء. والتقطت له صورة خلال واحدة من تلك المناسبات."
وفي 11 مايو 1951، قام محمد علي جمال زاده بالكشف عن خطاب وصله من هدايت قبل عامين ونصف العام. وفي هذا الخطاب، كتب هدايت: "الموضوع الرئيسي أن سوء الحظ والإرهاق واللامبالاة والضجر والضغينة سحقتني. ولا شيء بوسعي. لا اهتمام لدي أو رغبة في الشكوي أو البكاء، لا أستطيع خداع نفسي، ولا أمتلك الشجاعة للانتحار... لا أمل أمامي ولا طريق للهرب."
وقال مصطفي فارزانيه، أحد أصدقائه، الذي زاره قبل انتحاره بأيام قليلة، إنه خلال هذه الزيارة، وبعد بعض المناقشة سألته: "لقد مزقت كتاباتك وألقيتها أمس، ألا تجد متعة في الخروج للسيرك أو لحديقة الحيوان، حتي ذراع نظارتك مكسور منذ أسابيع ولم تذهب لإصلاحه. أخبرني بالحقيقة، ما معني كل هذا؟ ماذا حل بك؟"
وردّ هدايت: "لا شيء لدي لأقوله، بوسعك أن تقول تبدل الحالة المزاجية، وأحيانًا يكون الوضع غاية في السوء لدرجة لا تحتمل."
وفي 27 أغسطس 1950، كتب صادق هدايت: " إنني أقتل الأيام. الشيء الوحيد المهم هو إصابتي بضعف الذاكرة، لتكتمل متاعبي. وحقيقة أشعر أنها نعمة بالنسبة لي."
ومن الضروري ملاحظة أن عدم التركيز الذي يتجلي في النسيان وفقدان الذاكرة إنما هو عرض لنوبة الاكتئاب.
وبعد 3 أسابيع من وفاة صادق هدايت، كتب الأديب الإيراني الكبير "سعيد نفيسي"، وكان من أقارب هدايت:"خسارة هذا الصديق أحزنتني للغاية. ورغم ذلك فلقد توقعت أن لابد سيقدم علي قتل نفسه ذات يوم، وعرفت بمحاولات المتكررة للانتحار، كذلك كنت متأكدًا أن ذهابه لباريس كان لغرض الانتحار..."
كانت أولي محاولاته للانتحار في ربيع 1928 في فرنسا، وكذلك كانت آخر محاولة له والتي توفي علي إثرها، في ربيع 1951.
ومن المرجح أن هناك عوامل بيولوجية تلعب دورًا في هذه الظاهرة. وربما يكون الربيع بتفتح الزهور والنمو والتنوع حالة مخالفة للحالة الداخلية للشخص المكتئب، مما يزيد من شعوره بالألم والندم ويؤدي به للانتحار.
وهذه بعض السمات الخاصة بهدايت والتي أسهمت في الوصول لتشخيص حالته بأنها اضطراب عقلي ثنائي القطبية من النوع الثاني:
لسمات نوبات الاكتئاب الكبري:
متوسط العمر عند بداية المرض (30 سنة أو أقل) وهو ما يتطابق مع حالة هدايت.
مزاج مكتئب، وذلك حسبما يتضح من ذكريات معارفه ورسائله.
ضعف الاهتمام والبهجة تجاه البيئة المحيطة به (حسبما يتضح من ذكريات أصدقائه ومن رسائله).
الحالة الجسدية (فقدان شهية، خسارة وزن، الوهن الشديد والذي كان باديًا للغاية خلال الأسابيع الأخيرة من حياته).
التعب وصعوبة استكمال المهام (وتحدث بشكل دوري).
الشعور بالتفاهة والذنب (حسبما جاء في رسائله وذكريات المعارف الذين اشتكي لهم من هذه المشاعر).
تراجع التركيز والقدرة علي التفكير.
الأفكار المتكررة بشأن الموت والانتحار، ومحاولات الانتحار المتكررة (انتهت آخر محاولة بوفاته في عام 1951).
أعراض وعلامات أخري، ومن بينها الأرق وبطء التوافق الحسي الحركي.
ب) سمات هدايت المطابقة لنوبات الابتهاج والهوس:
مزاج مرتفع أو متوتر (حسب مذكرات أصدقائه).
تراجع الحاجة للنوم.
الثرثرة، وسطوة الكلام والتفاصيل حسب ذكريات أصدقائه المقربين.
القيام بأفعال خطيرة ولا مبالية بالمخالفة للقواعد الاجتماعية وآداب السلوك، مثل إدمان الكحول والمخدرات.
تضخم الذات: الحديث عن تضخم الذات بالنسبة لصادق هدايت غير منطقي نظرًا لأنه كان متفوقًا علي الأدباء من معاصريه من حيث المعرفة العامة والقدرات الأدبية والعبقرية الفنية. وعلي كل حال، كانت لديه طبيعة فطرية وموهبة في انتقاد الآخرين. ولم يكن باستطاعة أحد، خاصة هؤلاء أصحاب الشهرة الزائفة، الفرار من انتقاداته العنيفة وتعليقاته التي تنال منهم.
ج) تقييم عدد أعمال هدايت وتأثير الاضطراب المزاجي عليها، نلاحظ التالي:
لم يكتب هدايت أعماله ال 66 بمعدل وأسلوب ثابتين. ففي سنوات الاعتدال والهوس، قدم العديد من الأعمال المؤلفة والمترجمة.
في أعوام 1931-33-40 -41، كتب 4 أعمال في العام. وفي عام 1943، كتب 5 أعمال. وفي عام 1945، كتب 10 أعمال، بما يمثل ذروة نوباته الإبداعية. وفي عام 1946 كتب 5 أعمال.
وفي أعوام 1925-29-35- 49- 50- 51، لم يكتب مطلقًا. وترتبط هذه السنوات بنوبات الاكتئاب الحادة، ذلك الاكتئاب الذي يشفي منه، وبالنهاية دفعه للانتحار والموت.
أما أعوام 1926-27-32-43- 36- 37-38- 47- 48، فتمثل نوبات الابتهاج العقلي والاعتدال، وخلالها كتب عملًا أو عملين في العام.
وفي الحقيقة فإن هدايت مثل مثقف العهد الديكتاتوري الأسود، المثقف الذي حرم من أي وجود اجتماعي مفيد، إنه كما فقد إيمانه بقدرة الكاتب علي التأثر وبالتالي التغيير. وكان أعلن احتجاجه واعتراضه علي مظاهر الفوضي التي كان الجمع قد اعتادها، ولم تكن شخصيته المنفتحة الفكر لتتحمل الأمية والفقر والجهل السائد، ولذلك فقد اعتزل، معانيا من الضياع الروحي الكبير.. ثم جاء الانتحار، مثله مثل بعض الوجوه الأدبية الشهيرة التي أقدمت عل الانتحار في ذلك العهد، كرضا كمال، وشهرزاد جهانكر جللي.
في عمر الثالثة والعشرين، في رسالة لصديقه د. رازاوي، كتب: "إذا أردت أن ترسل لي بطاقة بريدية، فاختر واحدة داكنة وكئيبة وبشعة، لأنها تعجبني هكذا."


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.