بعد حركة الضباط رن التليفون في بيت إحسان عبد القدوس. رفع السماعة ابنه "أحمد" ليجد علي الطرف الآخر شخصا يقول له إنه جمال عبد الناصر. وقتها كان هذا الاسم يتردد بكثرة في كل بيت باعتباره الرجل الأهم ضمن هؤلاء الشبان الذين طردوا الملك. التقط إحسان عبد القدوس السماعة من ابنه ليقول ببساطة "إزيك يا جيمي". بعد هذه الواقعة اعتقل إحسان مرتين بتهمة محاولة قلب نظام الحكم! نظام الحكم الذي كان يسمح لإحسان بأن يناديه ب "جيمي" كان لديه من الأريحية الكافية التي تجعله يدعو إحسان علي الإفطار في الرئاسة في اليوم التالي لخروجه من المعتقل! في منتصف الستينيات أصدر إحسان روايته "أنف وثلاث عيون" مسلسلة في روز اليوسف. تقدم أحد نواب الشعب ببلاغ للنائب العام متهما إياه بخدش الحياء. تم استدعاء إحسان للتحقيق أمام النيابة، ثم حُوّل البلاغ إلي "شرطة الآداب"! رفض إحسان مثول "روايته" أمام شرطة تختص بمطاردة العاهرات والقوادين فذهب ليستنجد بتوفيق الحكيم الذي كان وقتها أمين لجنة القصة بالمجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب رغم أن الاتصال بجيمي كان أسهل وأسرع. الحكيم الذي كان مجتمعا وقتها بأعضاء اللجنة استمع له بجدية شديدة وبشعور حقيقي بالأسي، لكنه أي الحكيم اقترح تأجيل إصدار بيان تضامني لحين الاتصال ب "يوسف بيه" قاصدا يوسف السباعي الذي كان وقتها السكرتير العام للمجلس. الحكيم الذي اعترف عبد الناصر بتأثير كتابه "عودة الروح" عليه أثناء التفكير في "الثورة" تردد في إصدار بيان لحين معرفة رأي السباعي أو باختصار لحين معرفة رأي السلطة. في نهاية الثمانينيات لمح زميل دراسة ميلي للقراءة فأسرّ لي بأنه اكتشف أسفل سرير والده حقيبة صغيرة بها كتب تخص مؤلفا واحدا لم يذكر اسمه، قال إن طريقة تخزينها أوحت له بالخطورة، وقال إنه سوف يجازف بإحضارها لي كتابا تلو الآخر. المصادفة وحدها ألقت في يدي رواية "لا شيء يهم". وقعت في أسر الرواية وصاحبها مثلما وقعت في أسر عنوانها. بالنسبة لسني وربما لتكويني الفطري كانت فكرة عدم جدوي الأشياء تروقني، رغم أن الكلمة الافتتاحية التي كتبها إحسان في صدر الرواية كانت تقول "إننا لا نسير في الحياة ولكننا نحمل الحياة ونسير بها"! وما زال مشهد هروب سناء ومحمد الذي افتتحت به الرواية طازجا في مخيلتي كعنوان للتمرد، علي التقاليد وعلي المجتمع وعلي السلطة، وهي أشياء كانت مناسبة جدا لصبي في سني. في وقت قصير كنت قد قرأت تقريبا كل كلمة كتبها إحسان حتي تعرفت علي كُتّاب آخرين مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس ثم بهاء طاهر وجمال الغيطاني وخيري شلبي وغالب هلسا وعبد الرحمن منيف. وقتها خلعت إحسان كما يخلع أي صبي بنطلونه القصير احتفالا بشبابه، خصوصا أن سمعة إحسان وسط "المثقفين" الذين تعرفت بهم في وسط المدينة كانت موسومة دائما بالضحالة وقلة الصنعة ومخاطبة الحواس! منذ فترة تراودني فكرة إعادة قراءة إحسان مرة أخري، إعادة اكتشافه، مثلما أعدت اكتشاف نجيب محفوظ الذي لم أحب روايته "قلب الليل" حين قرأتها وأنا في الرابعة عشرة فظللت جاهلا به عشر سنوات كاملة. تراودني فكرة إعادة قراءته ولدي هواجس بأنه قد ظُلم ككاتب لاعتبارات تخص موقفه السياسي من الناصرية واليسار، فلأنه لم يكن من كُتاب السلطة، رغم حماسه للثورة، ولأنه لم يكن منتميا لشلل اليسار لعدم اكتراثه في رواياته بالقضايا "الكبري"، لم يجد من يدافع عنه ويروّج له. بالنسبة لي كان إحسان كاتبا وحيدا، عاش وحيدا ومات وحيدا.