بدايةً..لماذا آثرت الكتابة بالعامية في مجموعتك "حاجات صغيرة أوي" ؟ أنا لم أختر أن أكتب بالعامية. في الحقيقة أنا لم أختر أن أكتب أساسًا. كل ما كتبته - وهو ليس بالكثير- من أيام الطفولة وعلي أوراق ضاعت في السنين، وفي بعض المجلات، وأخيرا في النصوص المسرحية القصيرة والحكايات إنما كُتب من خلالي، وأنا هنا أستعمل مقولة العالم والفيلسوف ليفي شتراوس: "كل ما نعاني حتي نكتبه هو مكتوب فعلا وبصورة أفضل بداخلنا ومقموع بنا..المسألة هي أن تتركه يخرج منك وعنك، وتحرره وتتوقف عن امتلاكه وحيداً، أنا لم أكتب شيئاً، وإنما عرفت، علي ما أظن، كيف أتوقف قليلا عن اعتقال بعض الأشياء في قفصي الصدري، وأن أترك الخوف من تجربة القول والكلام، وأتعلم مشاركة الآخرين فيما هو هناك. نفس الكلام عن الكتابة بالعامية، فأنا لم أختر الكتابة بالعامية، الحكايات المكتوبة هي التي اختارت أن تُكتب بالعامية. التجربة والحكايات هي التي فرضت عليّ كتابتها وهي التي اختارت العامية لنفسها. "تاريخ شفاهي لأرض النعام"..هكذا كتبت في بداية الكتاب..فهل يعني هذا أن الكتاب يحوي كتابات ذاتية تبتعد في البناء والشكل عن القصة القصيرة؟ لا أعرف، ولست مهتماً في الحقيقة بتصنيفها. لا يهمني تصنيفي أنا أصلاً ككاتب قصة أو حَكّاء أو أي شئ آخر، أو لا شئ علي الإطلاق. ما يهمني أنني استمتعت كثيراً وأنا أكتب، كما أنني أشعر بعد كل كتابة أنني أعرف نفسي بشكل أفضل، وأنني قريب منها وقريب من الأشباح والأشياء التي بداخلي وخارجي طول الوقت. أنا أحب أن أسميها "حكاوي"، وأحببت ما اقترحه الأستاذ الكاتب والناقد والإنسان علاء الديب الذي ظن أنها من الممكن أن توصف بالاسكتش "أركيشوت". وعندما أقول انني لا أهتم بتوصيفها وتصنيفها لا أعني أنني أتعالي علي التصنيفات، ولا أهرب من أي مقياس نقدي مبني علي تصنيف، ولا أدافع عن هروبي من مقياس كتابة القصة القصيرة أو الحكاية. . ما يهمني أن تكون حكاياتي هناك، خارج السجن. فأنا لا أعرف الكتابة بأيديولوجيات وانحيازات فكرية أيديولوجيتي هي الكتابة. وهل تخشي من النقد الذي قد يوجه إليك بسبب الكتابة بالعامية؟ أنا أخشي النقد للغاية بشكل عام لكني لا أتأذي منه، بل أتعلم منه. الأستاذ علاء الديب تمني أن يكون النص مكتوباً بالفصحي، ودافع الأستاذ إبراهيم فتحي عن عامية النص وتعدد الوسائل والوسائط، والشاعر محمود الشاذلي والشاعر إبراهيم داود قاما بتحذيري من التخلي عن الكتابة بالعامية. أعتقد أن المكتوب هو ما يختار شكل كتابته. أنا أحب العامية جداً وأري أنها مناسبة للكتابة عني وعن حياتي "أنا" أكثر كثيراً من الفصحي، كما أن العامية لغة فصيحة، لكنها أكثر محلية، وربما هذه هي ميزتها الكبري. إنها أكثر فصاحة في رأيي في التعبير عما هو محلي وذاتي، وقد أكون مخطئاً بالطبع. الأهم في رأيي، أن العامية هي اللغة التي نعيش بها ونفكر بها ونحلم بها، فلماذا لا تكون صالحة للتعبير عن كل ذلك؟! ولماذا يجب عليّ أن أكتب بالفصحي؟! هل السبب هو أن القرآن، الكتاب المقدس، مكتوبان بالفصحي؟! هل لأن الكتابة يجب أن تكون مهمة عروبية قومية؟! هل العامية لغة عصية علي الإفصاح والتعبير والتطور وأقل شأنا؟!! حالة من النوستالجيا والحنين إلي الماضي تسيطر علي حكايات الكتاب..هل نعتبر في ذلك رغبة في الهروب من الواقع؟ أنا ضد فكرة أن القديم أجمل من الحاضر لأن لكل فترة خصوصيتها وشكلها.الماضي مختلف بقيمه وتصوراته وأحداثه. ماحُكي في الكتاب لم يكن ذكريات جميلة كما يظن البعض وأيضاً لم أقصد أن تحمل المجموعة بين ثناياها نوعاً من المثالية كما رأي البعض، كما أنني لم أكن أفكر في الكتابة وإنما أجبرني الأصدقاء والمتابعون علي صفحتي بالفيس بوك ورأيت هناك رغبة في طبع ما أكتبه بالفيس بوك وصدوره علي هيئة كتاب ثم تقابلت مع أصدقاء أمثال مكاوي سعيد وإبراهيم داود ومحمد هاشم وسيد حجاب وعليه فقد أخذت القرار بالطبع وصدر الكتاب. تحدثت في الكتاب عن ذكريات الطفولة وأحداثها..هل تفكر في إضافة جزء ثان يحكي فترة المراهقة والشباب؟ أكتب الآن تكملة وإضافات للجزء الأول من حكاوي "حكايات صغيرة أوي"، وأتمني أن أتشجع أكثر وأكتب ما قمت بالسكوت عنه في الجزء الأول، وهو مخيف لي، وقاس بشكل ما. في رأيك...لماذا هذا الانتشار الواسع للرواية في مقابل تواجد ضعيف للقصة القصيرة في الفترة الحالية؟ لا أعلم. أنا لست مختصاً بالبحث في هذا الموضوع؛ وأتمني ألا يكون السبب هو عدم القدرة علي الإيجاز والاختصار والتكثيف، واعتبار ذلك نقيصة واستسهالاً، وإذا أردت رأيي فأنا أري أن كتابة القصة القصيرة أصعب وأكثر تعقيدا كثيرا من كتابة الرواية، فالقصة القصيرة تكشف عن قدر وحجم الموهبة سريعا، موهبة قنص واصطياد انتباه القارئ، قنص لحظات متعجلة منه لتبيع نفسها للقارئ. كاتب القصة القصيرة - في رأيي - مثل بائع محترف "شاطر"، يبيع لك قصته بين كلمتي أهلاً ومع السلامة. لماذا أنت بعيد عن الوسط الثقافي؟ أري أن هناك "شللية" في الوسط الثقافي، كما أن الفكرة واحدة ولا يوجد إبداع وتفكير من خارج الصندوق وكأنها فكرة واحدة يُعاد تدويرها عبر السنين باستثناءات بسيطة، هناك أيضاً ثقافة قاهرية واضحة للغاية وتفرض وجودها علي الجميع مع عدم الإلتفات إلي القادمين من الأقاليم وعدم تمثيلهم. هناك الكثير من الورش الأدبية التي انتشرت بشكل لافت..كيف تري هذه الفكرة؟ هذا من الأشياء التي تؤرقني، الآن قد تذهب إلي ورشة ما وتلقي أجزاء من أعمالك علي مسامع الحاضرين وتتلقي تصفيقاً وتذهب من حيث أتيت وتظن نفسك كاتباً وانت لست بكاتب، يكفي أن تمتلك ألفين أو ثلاثة من الجنيهات للاشتراك. أنا لا أري فرزاً حقيقياً تنتجه الورش حالياً فهي تشبه من يذهب إلي مدرسة خاصة أو جامعة خاصة ليتعلم هناك. هذه ظاهرة خطيرة ولا أري أحداً ينشغل بها أو يتحدث عنها، وبصفتي طبيباً نفسياً أقول إن هناك في الطب النفسي ما يسمي "ضلال أن تكون فناناً" وهذا موجود فينا جميعاً ولذلك فإننا نحتاج لمن يفرز. بصفتك طبيباً نفسياً.. ما التحليل النفسي للشخصية المصرية بعد ثورة يناير وحتي الآن؟ هذا موضوع شائك ويحتاج وقتا أطول للكتابة فيه والكلام عنه، لكن مادمت تسألني فرأيي المتعجل والمتواضع الذي يشبه التفكير بصوت مسموع، هو أنه يتعين عليّ أولا شرح ما أعنيه بالشخصية أصلاً. فالشخصية كما أفهمها هي خليط من شخصيات متعددة. كل منا يحمل في داخله عدداً ضخماً من الشخصيات، خليطاً عظيماً من الشخصيات المختلفة والمتعارضة والمتناقضة والمتوافقة، من ضمن هذا الكيان المتعدد من الشخصيات توجد شخصية مركزية أو "ضامة"، تقوم باختيارات وضم واستبعاد عدد من الشخصيات، وتقوم مقام المتحدث والإداري والمنفذ لهذا المجموع. هذا التحدث والقيام بالتمثيل الإداري والتنفيذي لما هو متعدد بالداخل هو ما نطلق عليه الشخصية. وعندما لا تستطيع الشخصية المركزية الضامة النجاح في إدارة التعدد الداخلي تسقط حتما وضرورة، وبسقوطها تتفسخ الشخصية وتتناثر مكوناتها المتعددة وتتناحر، وهنا تبحث الأجزاء المتناثرة فيما بينها عن شخصية ضامة تقوم بعمل الشخصية المركزية التي سقطت، لتقوم بتمثيل المجموع المتعدد في الواقع، الخارج. هذا علي مستوي الفرد. نستطيع أيضا تطبيق هذا علي الشخصية الجمعية، شخصية الجماعة (مع بعض الحذر بالطبع). ثورة يناير كانت إعلاناً عن فشل الأنظمة في تمثيل التعدد والمصالح المتناقضة، فشلها في ضم مكونات المجتمع والقيام بمصالحه وفض اشتباكات مكوناته. فشلت بانحيازاتها لنفسها ولبعض مكونات المجتمع واهمال أخري، وبسقوط نظام الدولة تفسخت الشخصية المجتمعية وتناثرت أجزاؤها المتناقضة المتدافعة؛ ومازالت تبحث عن أخري في داخلها تلم هذا التناثر والتعدد وتتعامل معه وتنوب عنه وتحقق مصالحه المتعددة بشكل أفضل وأكثر توافقا.