مرت القاهرة بعشرات العصور وحاول خلالها كل حاكم ومن معه من مصممين وبنائين مبدعين أن يتركوا أثرا لهم، إلي جوار أو علي حساب من سبقوه، وفطن بعضهم إلي امتداد الحضارة، فكان يبحث مع معاصريه عن مواد تعيش وتتحدث عنه وعما ترك، أصاب من أصاب وخاب من خاب، ولكن ظلت القاهرةالمدينة التي تزيد مساحة وقيمة فتتغلب علي غيرها سواء إسلاميا أو حتي عالميا، مرت القاهرة بعشرات العصور وحاول خلالها كل حاكم ومن معه من مصممين وبنائين مبدعين أن يتركوا أثرا لهم، إلي جوار أو علي حساب من سبقوه، وفطن بعضهم إلي امتداد الحضارة، فكان يبحث مع معاصريه عن مواد تعيش وتتحدث عنه وعما ترك، أصاب من أصاب وخاب من خاب، ولكن ظلت القاهرةالمدينة التي تزيد مساحة وقيمة فتتغلب علي غيرها سواء إسلاميا أو حتي عالميا، ولم تكن يوميا؛ بل ولا تصلح بطبيعتها أن تقلد غيرها، فكانت وستظل حتما فريدة في فلسفتها ولغتها. أشرفت مؤخرا الهيئة المصرية العامة للكتاب برئاسة الدكتور أحمد مجاهد، علي إعداد كتاب "القاهرة.. خططها وتطورها العمراني" للدكتور أيمن فؤاد سيد، والذي يأتي علي هيئة مجلدين، الأول دراسة بحثية يتناول فيها تاريخ القاهرة وأصولها المعمارية منذ ما قبل الإسلام وبعد دخوله مصر بدءا من الفاطميين، مرورا بالأيوبيين والمماليك والعثمانيين، ثم محمد علي باشا والأسرة الحاكمة، وحتي القاهرة المعاصرة وما وصلت إليه بعد مئات السنين، والثاني يعبر عما يحويه الأول ولكن بالصور القديمة والحديثة. ويخلص الدكتور أيمن في النهاية إلي أن الأثر التاريخي الأول للقاهرة هو المدينة القديمة نفسها، التي يجب الحفاظ علي هيئتها الموروثة ولا يجب أن يغيب أبدا عن نظر من يعهد إليهم المحافظة عليها، مما يتطلب وجود قانون عام لحماية المواقع والآثار ويمنع فوضي الإساءات المتفرقة التي من شأنها تشويه شكل المدينة القديمة وتغيير هيئتها، وأن يعهد بتنفيذ ذلك إلي أهل الاختصاص، كما يجب زيادة الوعي الآثاري لدي القاطنين بهذه الأماكن. ع . م العاصمة التقليدية.. مركزاً وامتداداً نشأت القاهرة بنواة الفتح الإسلامي وامتدت بامتداد معالمها العمرانية ما بين مساجد وحصون وقصور، وكذلك مدارس وخوانك وكتاتيب، وظلت عبقرية اختيار المكان تفرض نفسها، والنواة الأولي هي مركز القاهرة عبر العصور من الطولوني والإخشيدي إلي الفاطمي والأيوبي ثم المملوكي والعثماني، وصولا إلي تحولات محمد علي، ورغم ما شهدته مصر من شتات في العصور الحديثة ولكن ظل الامتداد العمراني للنواة الإسلامية باقيا وشاهدا علي حضارة ثقافية واحدة متعددة الأوجه، تحتاج الحفاظ والاعتناء بما تبقي منها بعد اندثار الكثير من المعالم التي لكل منها تاريخ. عند رأس الدلتا احتلت القاهرة موقعا فريدا حتمته طبيعة الأرض المصرية واستمرار حركة التاريخ، فتلك المنطقة ظلت مع الزمن مركزا عمرانيا ودينيا مصريا نشأت وتطورت فيه العديد من الشعائر المهمة، وبقيت العواصم المصرية تدور في فلكها وتنتقل بها من موضع لآخر، لم تخرج عنها إلا في فترات عابرة، مع بداية ظهور وانتشار المسيحية شهدت بعض التقلبات التي لاتزال بعضها باقية حتي الآن متمثلة في بعض الكنائس، وكانت تلك الأطلال ذات تأثير كبير علي اختيار المسلمين فيما بعد لموقع الفسطاط، كنوع من الاستمرارية ولكن في ظروف سياسية واجتماعية مختلفة. قاهرة ابن طولون.. أول عاصمة مستقلة نزل أحمد بن طولون إلي مصر واليا عليها، ولم تزد طموحاته علي تأسيس أسرة حاكمة، فلم تكن لديه أهداف استراتيجية محددة، ولكنه كان مؤسس أول دولة مستقلة في مصر الإسلامية وهي "الدولة الطولونية"، ووقع اختياره بين جبل يشكر جنوبا وسفح المقطم شرقا "حيث تقع القلعة الآن"، وبين الرميلة "حيث جامع السلطان حسن" ومسجد زين العابدين في منطقة تلال زينهم، علي مساحة تبلغ حوالي ميل مربع ليبني قصرا كبيراً في حماية الجبل بعد أن أزال قبور اليهود والنصاري المنتشرة هناك، وجعل للميدان تسعة أبواب وأطلق علي كل منها اسما. بعد إتمام بناء قصره، أفرد طولون لكل طائفة من العسكر "قطيعة"، سميت كل واحدة باسم الأمير الذي نزل فيها أو الطائفة التي سكنتها، واتصل معمارها بالفسطاط، أصبحت تلك القطائع ثالثة عواصم مصر الإسلامية، وأول عاصمة يراعي في تخطيطها اتباع القواعد الفنية في إنشاء المدن، وكان موقعها علي تل جبل يشكر يضمن لها حصانة طبيعية ويجعلها في مأمن من فيضان النيل، وبرغم التجمع السكاني الكبير بها، ولكنها لم تحو مؤسسة علاجية واحدة، فجعل ذلك ابن طولون يفكر في بناء بيمارستان، هو الأول من نوعه في مصر الإسلامية، ومعه بدأ نظام الأوقاف في مصر. أما الأثر الذي خلد اسم ابن طولون حقا، كان "الجامع" الذي بقي وحده من مدينة القطاع بعد تخريب جنود العباسيين وإهمالهم لها، وقد تأسس علي قمة جبل يشكر، واستغرق بناؤه نحو سنتين وافتتح للصلاة عام 265ه/880م، ويعد أقدم آثار مصر الإسلامية المحتفظة بتفاصيلها المعمارية وهيكلها الأصلي رغم ما تعرض له من إهمال، كما أنه نقطة تحول مهمة في تاريخ العمارة الإسلامية، لأنه بني من مواد جديدة تماما، فاستخدم في تشييد دعائمه "الآجر" بدلا من الرخام ليقاوم الحديد، ولذلك قاوم هذا الجامع النيران التي دمرت سائر مباني القطائع فيما بعد. تحيط بالجامع من خارجه - ما عدا جهة القبلة - ثلاثة أروقة خارجية مكشوفة علي شكل طريق حول الجامع تعرف بالزيادات، وتبلغ مساحته الإجمالية ما يعادل ستة أفدنة وربع فدان، لذلك يعد مع جامع الحاكم بأمر الله داخل باب الفتوح وجامع الظاهر بيبرس في ميدان الظاهر، من أكبر المساجد الجامعة في مصر، وقد عرف جامع ابن طولون في القرن الرابع الهجري بالجامع الفوقاني، تمييزا له عن الجامع السفلاني "جامع عمرو بن العاص في الفسطاط". في أعقاب سقوط الطولونيين وتدمير عاصمتهم القطائع استردت الفسطاط مرة أخري مكانتها كعاصمة لمصر، وأجبر الولاة العباسيون علي الإقامة في دار الإمارة القديمة بالعسكر، حتي استولي الإخشيدين علي السلطة في مصر، والذين لم يخلفون أي أثر عمراني أيضا مثل الطولونيين، بسبب الفوضي السياسية والأزمات الاقتصادية. الفاطمية.. مدينة الأبواب والحصون كان وصول الفاطميين إلي مصر في أواسط القرن الرابع الهجري انقلابا غير عادي وتطورا خطيرا في خريطة العالم الإسلامي آنذاك، فقد أراد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي أن يؤسس في مصر مدينة ملكية وعاصمة للدولة العالمية الشاملة التي حلم بها الفاطميون لتضم جميع الأراضي الإسلامية، فقد كانوا يتزعمون حركة دينية فلسفية اجتماعية عظمي هدفها تحويل وتجديد كل الإسلام، ويرون في أنفسهم الأئمة الأحق بحكم العالم الإسلامي بمقتضي الحق الإلهي في الحكم، لأنهم أبناء السيدة فاطمة بنت رسول الله - صلي الله عليه وسلم. في الليلة التي عبر فيها جوهر الصقلي من الجيزة إلي الفسطاط، وقع اختياره علي السهل الرملي الذي لا يمر فيه أحد، ليضع فيه أساس مدينة جديدة هي "القاهرة" والتي أطلق عليها حينها "المناخ"، استغرق بناؤها عدة سنوات، وكانت في أول عهدها حصنا يشتمل علي قصر فخم وثكنات للجنود ومقر للحكم، فيذكر المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار" أن القاهرة بنيت لتكون منزلا سكنياً للخليفة وحرمه وجنده وخواصه، ومعقل قتال يتحصن بها ويلتجئ إليها. اتخذ تخطيط القاهرة في أول الأمر، الشكل المربع، وبعد نحو مائة وعشرين عاما تحول شكلها إلي المستطيل، وكان يخترقها شارع رئيسي يمتد من باب زويلة جنوبا إلي باب الفتوح شمالا يطلق عليه الشارع الأعظم "شارع المعز الآن"، جعل جوهر للمدينة تسعة أبواب، ولكن لا يوجد منها الآن أي أثر، فلم تكن تشبه أبواب الحصون التي شيدها فيما بعد، بل كانت مجرد أقواس يُعبَر من خلالها وتغلق علي المدينة كل مساء. أرجع سبب تسمية "القاهرة" بهذا الاسم لأكثر من رواية، ولكن تبقي الأقرب إلي الحقيقة أن المعز عندما خرج لوداع جوهر الصقلي وهو في طريقه لفتح مصر، التفت إلي المشائخ المصاحبين له وقال: "والله لو خرج جوهر هذا وحده لفتح مصر وليدخلن إلي مصر بالأردية من غير حرب، ولينزلن في خرابات ابن طولون ويبني مدينة تسمي القاهرة تقهر الدنيا"، فكان ذلك بمثابة توجية واضح من الخليفة إلي قائده بالاسم الذي يريد إطلاقه علي عاصمة خلافته في مصر. مثل لفظ "المقاطع" في عصر الطولونيين، كان تأسيس مدينة القاهرة بداية لمصطلح جديد ظهر في كتابات المؤرخين المصريين وهو "حارة"، وأخذت كل حارة اسم الجماعة أو القبيلة التي سكنتها، كانت معزولة بعضها عن الآخر ويتخلل كلا منها شبكة من السكك والدروب ولكل منها أسواقها وحماماتها ومساجدها، ولم تختلف صورتها هذه كثيرا طوال العصر الإسلامي، ولكنها فقدت فقط صبغتها العسكرية التي ميزتها في العصر الفاطمي، وقد كانت حارات القاهرة الأولي ست حارات تقع جميعها بالقرب من أبواب المدينة هي حارة زويلة، حارة البرقية، حارة كتامة، حارة الباطلية، حارة الروم البرانية، وحارة الروم الجوانية، وقد تطور مفهوم وشكل الحارة القاهرية واختلف عبر الزمان في العصرين الأيوبي والمملوكي، بعد أن فتحت القاهرة أبوابها للأنشطة التجارية والحرفية وانتقال مركز الحكم إلي قلعة الجبل. كان القصر الفاطمي هو قلب المدينة والشيء الوحيد الذي حرص المعز علي أن يضع تصميمه بنفسه وأملاه علي قائده جوهر، فقد شغل نحو سبعين فدانا، أي ما يمثل خمس مساحة القاهرة تقريبا، وقد تباري الفنانون في زخرفته وتصويره، وأثار إعجاب زواره، أما جامع القاهرة "الجامع الأزهر فيما بعد"، فقد كان المركز الذي اعتمد عليه الفاطميون في نشر الثقافة الفاطمية بمشاركة القصر. عندما اكتمل بناء القصر كانت له تسعة أبواب، أكبرها هو باب الذهب الواقع في وسط الواجهة الرئيسة للقصر، الذي كان يمثل الحد الشرقي لمنطقة بين القصرين التي كان يطلق عليها إلي وقت قريب شارع النحاسين وأصبحت اليوم جزءاً من شارع المعز لدين الله، أما حوائط القصر التي ضمت الأبواب الأخري للقصر، فقد حل محلها في القرن التاسع الهجري من الجنوب إلي الشمال: المدارس الصالحية ثم قبة الصالح نجم الدين أيوب ثم المدرسة الظاهرية العتيقة ثم سوق السلاح والمدرسة السابقية وأخيرا قصر بشتاك. مازالت بقايا المدارس الصالحية قائمة إلي اليوم هي وقبة الصالح نجم الدين أيوب، أما المدرسة الظاهرية العتيقة فقد ضاع قسم كبير منها مع فتح شارع بيت القاضي وحل سبيل النحاسين الذي بناه محمد علي باشا والدكاكين المجاورة له إلي حارة بيت القاضي محل سوق السلاح، ومازالت بقايا المدرسة السابقية قائمة داخل درب قرمز، وأطلال قصر بشتاك بعد ترميمها قائمة إلي اليوم تطل علي شارع المعز لدين الله وعلي سبيل عبد الرحمن كتخدا، الذي يتفرع عنده الشارع إلي قسمين، حيث يستمر شارع المعز لدين الله علي يساره إلي باب الفتوح، ويبدأ شارع التمبكشية علي يمينه ليدور حول موضع القصر الفاطمي الكبير. في مواجهة القصر الفاطمي الكبير، كانت الواجهة الشرقية للقصر الفاطمي الغربي، وهو بناء أقل مساحة من القصر الكبير ذو جناحان يتقدمان تجاه الشرق، شيد في زمن الخليفة العزيز بالله وجعله لابنته ست الملك، الأخت الكبري للحاكم بأمر الله، وقد ضاع كل أثر للقصر في العصر المملوكي الأول، وحلت محله أولا مجموعة قلاوون "مدرسة وقبة ومارستان" وجامع الناصر محمد، ثم جامع ومدرسة الظاهر برقوق. كانت أول منشأة تقام في القاهرة الفاطمية بعد القصر والجامع، دار الوزارة القديمة، أقامها الوزير ابن كلس في عهد الخليفة عبد العزيز بالله، ونقل إليها دواوين الدولة وجعل بها خزائن للكسوة وللمال وللكتب وللشراب، ووضع علي كل خزانة ناظر، وأضاف إلي ذلك عدة مطابخ لنفسه ولغلمانه ولحواشيه. مع وصول أمير الجيوش بدر الجمالي إلي قمة السلطة في مصر أوائل القرن الحادي عشر الميلادي وفي عهد المستنصر بالله الفاطمي، لم يرد أن يشغل الدار التي شغلها الوزراء السابقون، فشيد في حارة برجوان، شمال القصر الفاطمي الغربي "دار المظفر"، ظل فيها 21 عاماً التي قضاها كوزير حتي وفاته، فآلت إلي ابنه أبو محمد جعفر المعروف بالمظفر، فعرفت الدار باسمه، ثم تحولت إلي دار للضيافة، وقد اعتقل صلاح الدين فيها بقايا الأسرة الفاطمية في أعقاب انقلابه علي الخليفة العاضد، ومع نهاية القرن الرابع عشر الميلادي كان قد زال كل أثر لها. قبل وفاة بدر الجمالي، بدأ مشروعا كبيرا لتوسيع وتحصين القاهرة، ببناء أول سور جدير بهذا الاسم، وفتح فيه أول أبواب محصنة عسكريا، مازال باقيا منها ثلاثة أبواب ضخمة هي باب النصر وباب الفتوح وباب زويلة، إلي جانب باب البرقية، والتي تمثل أنموذجا متميزا للعمارة العسكرية في العالم الإسلامي قبل الحروب الصليبية. إن أهم ما يميز المدينة الإسلامية ويمثل النواة الرئيسية لها "المساجد الجامعة" التي تقام فيها الجُمع، وأكثر ما تشتهر به هو وجود المنبر الذي يعتليه الخطيب لإلقاء خطبة الجمعة، فكان هو الفرق بين الجامع والمسجد، وفي القرون الإسلامية الأولي لم يكن يوجد في المدينة الإسلامية سوي مسجد جامع واحد تؤدي فيه صلاة الجمعة، ومع تنامي أهل المدينة كانت تتم توسعته أو إضافة زيادات إليه حول جدرانه الخارجية. وكان ما يميز العاصمة المصرية في العصر الفاطمي أيضا، والفسطاط علي وجه خاص، امتزاج سكانها من مسلمين وأقباط ويهود، حيث فاق عدد سكانها بكثير عدد سكان القاهرة، ولكن ذلك لا ينفي أن مصر كانت دولة ثيوقراطية بمعني الكلمة، حيث كان الإمام الفاطمي هو الرئيس الديني والسياسي للدولة وينظر إليه علي أنه ممثل الله علي الأرض والمفسر الأول للشرع ومصدر كل العلم. القباب الأيوبية.. عصر المدارس بدأ صلاح الدين في أواخر عام 565ه/1170م في اتخاذ خطوات حاسمة ضد المؤسسة الفاطمية لإضعاف المذهب الإسماعيلي وتقوية السني في مصر، ثم تبني خطة لتحويل بعض دور فسطاط مصر إلي مدارس لتدريس الفقه علي المذاهب السنية الأربعة، فهدم دار المعونة المجاورة للجامع العتيق وبناها مدرسة للشافعية، وعمًّر دار الغزل المجاورة لباب الجامع العتيق مدرسة للمالكية عرفت بالمدرسة القمحية، واشتري ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه منازل العز بالفسطاط وجعلها مدرسة للشافعية عرفت بالمدرسة التقوية، كما أبطل "مجالس الدعوة" من القصر والجامع الأزهر. مع استيلاء الأيوبيين علي السلطة بدأت العناصر التي أدت إلي تكوين شكل مدينة القاهرة التاريخية في الظهور، فخرج مركز الحكم من القاهرة إلي قلعة الجبل، والتي حكم منها المماليك فيما بعد عند انتقال السلطة إليهم وظلت مركزا للحكم حتي نهاية القرن التاسع عشر للميلاد، ففقدت القاهرة مكانتها كمركز للحكم وأخذت الأنشطة التجارية والحرفية تتسرب إليها وتنتشر في موضع القصور الفاطمية حول الشارع الأعظم، وتحول مركز المدينة القريب من الجامع الأزهر إلي منطقة تجارية. كما أدت التغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها القاهرة في العصر الأيوبي إلي إعادة تشكيل النسيج العمراني للمدينة، فبدأت القاهرة في التعرف علي أنماط جديدة من البناء حل أغلبها محل القصور الفاطمية في منطقة بين القصرين مثل المدرسة السيوفية، ودار الحديث الكاملية، والمدارس الصالحية، وأخيرا قبة نجم الدين أيوب، وهي أول قبة دفن ملحقة بمؤسسة دينية تنشأ في القاهرة وأصبحت الأنموذج الذي تبنته بعد ذلك الكثير من المؤسسات الدينية في العصر المملوكي. أدخل الأيوبيون ذوو الأصول الشامية، إلي القاهرة عمارة حربية ومدنية ودينية جديدة، تمثلت في بناء قلعة الجبل والعديد من المدارس السنية والقاعة الملحقة بقلعة الروضة التي شيدها آخر سلاطين الأيوبيين الصالح نجم الدين أيوب، فكان بناء قلعة الجبل كمدينة محصنة في آن واحد علي القاهرة والفسطاط، تجديدا حقيقيا في أساليب وأنماط البناء التي كانت سائدة قبل الأيوبيين، وكان أول من انتقل نهائيا للإقامة فيها من سلاطين الأيوبيين هو السلطان الملك الكامل محمد. انشأ نجم الدين أيوب كذلك عددا من المناظر "القصور الصغيرة" علي جبل يشكر بجوار الجامع الطولوني، أطلق عليها اسم "الكبش"، وكانت تكشف باب زويلة والقاهرة وتري باب فسطاط مصر ومدينة الفسطاط نفسها، وكذلك قلعة وجزيرة الروضة، إلي جانب بحر النيل الأعظم وبر الجيزة، وقد أقام بها أيضا فيما بعد عدد من الخلفاء الذين حكموا مصر كالحاكم بأمر الله والمستكفي بالله، إلي أن هدمها ابن قلاوون وأعاد بناءها وزاد في سعتها وظلت تستخدم في إقامة الأمراء، حتي هدمها الملك الأشرف شعبان وبني الناس في مكانها المساكن. من بين التجديدات المهمة التي أدخلها الأيوبيون كذلك علي العمارة في مصر عمارة المدارس، وهي أبنية ذات عمارة خاصة ووظيفة تعليمية تعرف بها، كما عرفت القاهرة كذلك في العصر الأيوبي نوعا آخر من المؤسسات التعليمية "دار الحديث"، وهي مؤسسة اختصت فقط بتدريس علوم الحديث وعلي الأخص في دمشق وضواحيها، إلي أن انشأ السلطان الملك الكامل محمد "دار الحديث الكاملية"في القاهرة عام 622ه/1225م، وهي إضافة إلي "دار الحديث المراغية" التي عمرها الشيخ شمس الدين المراغي علي شاطئ النيل. وبالرغم من أن معظم المباني الدينية ذات الطابع الاجتماعي التي شيدها الأيوبيون داخل القاهرة قد اندثرت، فإن للآثار المتبقية منها أهمية معمارية كبري وكان لخصائصها أثر كبير في تطور العمارة في العصور اللاحقة، فتنحصر الآثار التي وصلت إلينا من العصر الأيوبي، إضافة إلي قلعة الجبل وبقايا أسوار صلاح الدين، في قبة الإمام الشافعي، وبقايا إيوان الثعالبة وبوابته، وبقايا دار الحديث الكاملية، ومئذنة المشهد الحسيني، وقبة الخلفاء العباسيين، والمدارس الصالحية ومئذنتها وقبة الصالح نجم الدين أيوب الملحقة بها، وقبة شجر الدر، وقبة أبي الغضنفر أسد الفائزي. المملوكية بلا حصون.. مدينة مترامية الأطراف أكثر الصالح نجم الدين أيوب من شراء المماليك وجعلهم معظم عسكره وأحلهم محل الأمراء الذين كانوا عند أبيه وأخيه حتي صاروا بطانته والمحيطين بدهليزه، واستولوا علي الحكم وانشأوا دولة المماليك في مصر، وقد اتخذوا من قلعة الجبل مقرا لهم، وقام السلاطين المماليك المتأخرون وعلي الأخص الأشرف قايتباي والأشرف قانصوه الغوري بتجديد سائر أبنيتها، وقد انقسموا إلي المماليك البحرية والمماليك الشركسية. لم تكن مدينة القاهرة بحدودها الفاطمية زمن المماليك مدينة محصنة، فقد اختفي السور الفاطمي وسط أحياء المدينة المملوكية، كما أن الشارع الأعظم لم يكن الشريان التجاري للمدينة فحسب، وإنما المكان الذي كانت تتم فيه كذلك الاحتفالات الموكبية والتي كان يظهر فيها السلاطين للشعب، وكما كان هذا الشارع هو المركز السياسي والروحي للقاهرة الفاطمية، فقد أصبح في العصر المملوكي أشبه بمدينة جامعية، ففي منطقة بين القصرين كانت توجد سلسلة من المدارس، وإلي الجنوب قليلا كان يوجد آخر جوامع دولة المماليك الشراكسة. وإضافة إلي الجوامع والقصور التي أنشئت علي الأخص في فترة سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة حول القلعة وخارج باب زويلة، أنشئت كذلك في نهاية القرن الثامن الهجري مدرسة أم السلطان شعبان، ومدرسة الأشرف شعبان، وجامع أيتمش البجاسي بشارع باب الوزير، فالقسم الأكبر من الآثار التاريخية لمصر الإسلامية مركزا داخل حدود القاهرة المملوكية يدل عليها الآن مناطق الجمالية والدرب الأحمر والخليفة حتي صليبة ابن طولون جنوبا، وكم التراث المملوكي بينها هائل وعظيم، ولكنه في حالة متردية بسبب الإهمال الشديد وعدم العناية وانعدام الصيانة، وبالتالي فكثير من هذه الجوامع غير مقامة الشعائر ولا يمكن زيارتها ويخشي عليها من التدمير. كان امتداد القاهرة وتوسعها في زمن المماليك أكبر من أي عصر سابق في تاريخ مصر الإسلامية، ففي هذه الحقبة تم تنفيذ مشروع عمراني كبير، حيث قام المقر الأتابكي أزبك بتعمير منطقة الأزبكية التي نسبت إليه، وقام بتمهيدها وحفر فيها البركة المعروفة هناك وأجري إليها الماء من الخليج الناصري، ثم شرع الناس في بناء القصور والدور حول البركة وأخذت العمارة تتزايد في المنطقة، كما انشأ أزبك علي الضفة اليمني للمنطقة جامعه الكبير المنسوب إليه "جامع أزبك"، الذي أزيل عام 1286ه/ 1869م في المشروع الحضاري الكبير الذي تبناه الخديو إسماعيل لتجديد ميدان الأزبكية وإنشاء دار الأوبرا المصرية. في حين أن أول مسجد جامع يبني في القاهرة منذ سقوط الفاطميين كان "جامع الظاهر بيبرس" بالحسينية خارج باب الفتوح، ويعد أهم ما يميزه هو احتواؤه علي مقصورة تتقدم المحراب تشغل تسعة أروقة يتكون كل ضلع من أضلاعها الثلاثة من ثلاثة عقود، ويتوسط الضلع الرابع من المقصورة محراب كبير مجوف علي جانبيه حنيتان مسطحتان يعلوهما نافذتان، وكانت المقصورة في الأصل مغطاة بقبة من الآجر ضاعت الآن. أما المدارس، فقد امتازت في العصر المملوكي البحري بضخامة البناء وارتفاعه ومساحته الكبيرة،أما في العصر الشركسي فاعتمد المهندسون أيضا النظام المتعامد في بناء المدارس ولكنهم لجأوا إلي تصغير مساحة الصحن وتغطيته، ونتج عن ذلك صغر واجهاته واتساع فتحات الإيوانات المطلة عليه، كما امتازت المدارس في العصرين أيضا بالمداخل التذكارية الضخمة، من أهمها مدخل جامع ومدرسة السلطان حسن بالرميلة، ومدخل مدرسة أم السلطان شعبان بشارع باب الوزير، ومدخل مدرسة وخانقاه الظاهر برقوق ببين القصرين. كما امتازت منابر هذه الفترة سواء الخشبية أو الحجرية، بدقة صناعتها ودقة حشواتها وقوائمها وجانبا سلمها بالأويمة الدقيقة البالغة الإتقان التي انتشرت بها أشكال الأرابيسك والأطباق النجمية، وتعد منابر العصر المملوكي البحري أقدم المنابر التي وصلت إلينا في مصر الإسلامية، وأصبحت هي الأنموذج الذي اتبعته سائر منابر المساجد الجامعة في مصر بعد ذلك، ومنها المنبر الذي أقامه المنصور حسام الدين لاجين لجامع ابن طولون. وكان طبيعيا بعد أن فتحت القاهرة أبوابها لعامة الشعب بدءاً من العصر الأيوبي أن يتخذ أمراء المماليك وكبار رجال الدولة مناطق جديدة لبناء دورهم وقصورهم، وقد حرصوا علي أن يكونوا في جوار مركز الحكم في قلعة الجبل، ولكن من المؤسف أن هذه القصور المملوكية الضخمة، التي تعد هي والجوامع والخوانق المملوكية التي وصلت إلينا، خير شاهد علي ما كانت عليه قاهرة المماليك من فخامة وأبهة، في حالة سيئة من الإهمال وعدم العناية تهدد بزوالها، وبالتالي هي لا تظهر علي أية خريطة سياحية لزيارة القاهرة التاريخية رغم أن هذه المنطقة الواقعة بين باب زويلة وقلعة الجبل، وباب زويلة وصليبة ابن طولون تشتمل علي أهم آثار القاهرة المملوكية. وبين قلعة الجبل وقبة النصر، كان يمتد براح واسع يعرف بميدان القبق وميدان العيد والميدان الأسود، كان يحتوي بداخله "قرافة المماليك" في الصحراء شرق طريق صلاح سالم الحالي، وهي الآن معروفة ب"ترب الغفير"، ولم تكن هي الوحيدة، فهناك غيرها الكثير الذي سبق أو توالي بناؤه، منها ترب قايتباي، قرافة باب الوزير وقرافة المجاورين. وصيفة العثماني.. أسبلة عبر الدروب بعد سقوط دولة المماليك في مصر والشام عام 923ه/1517م واستيلاء العثمانيين عليهما، أصبحت الدولة العثمانية أكبر كيان سياسي حول البحر المتوسط منذ الإمبراطورية الرومانية، ورغم فقد القاهرة لمكانتها كعاصمة لدولة المماليك فقد احتفظت بمكانة خاصة في الدولة العثمانية، حيث كانت تعد المدينة الثانية بعد إسطنبول، وكفل لها نشاطها التجاري والاقتصادي ومكانتها الثقافية تعويضا جزئيا عن اضمحلال مكانتها السياسية. تكون النسيج العمراني للمدينة في العصر العثماني من سكك قصيرة جدا وتفريعات شديدة التعرج تؤدي إلي دروب لا تحصي، وشوارعها في غاية الضيق، وكثيرا ما تتماس شرفات المنازل المتقابلة في هذا الشوارع، ولا تحمل شوارع المدينة حتي أكثرها طولا اسما واحدا بل تتغير أسماؤها علي الدوام، أما الأسواق فلم يتغير موضعها كثيرا عما كانت عليه في العصر المملوكي وكان الاختلاف الوحيد بينها في تغير اختصاصات بعضها. تمتعت المدينة علي طوال تاريخها بنشاط عمراني غير مسبوق في العصر العثماني، بالإضافة إلي الترميمات والإضافات التي أدخلها عبد الرحمن كتخدا علي العديد من المنشآت التي ترجع إلي عصور سابقة، حيث تمثل الفترة التي أصبح فيها كتخدا القزدوغلي الرجل الأول في مصر وحتي نفيه علي يد علي بك الكبير والتي امتدت ربع قرن، عصر ازدهار عمراني لمصر وللقاهرة علي وجه الخصوص، فقد قام بدور أساسي في النشاط العمراني للقاهرة تجعل منه أحد أكبر البنائين الذين عرفتهم المدينة مازالت آثاره الباقية شاهدة عليه. ومن أهم منشآت عبد الرحمن كتخدا التي مازالت باقية في القاهرة وتدل علي الطراز الجديد الذي أدخله في العمارة: سبيل بين القصرين وجامع وسبيل وكتاب الشيخ مطهر، والإضافات الموجودة بالجامع الأزهر، حيث إنه ابتكر طرازا جديدا في زخرفة واجهات الأسبلة، ومع نهاية القرن الثامن عشر أصبح التأثير العثماني واضحا في طراز عمارة أسبلة القاهرة التي تميزها واجهات نصف دائرية وأطر تشتمل علي أشعار بالتركية العثمانية والنوافذ الضخمة ذات المصبعات النحاسية المعقدة، ومن أروع نماذج أسبلة القاهرة العثمانية المتأخرة سبيل السلطان محمود بدرب الجماميز، سبيل رقية دودو بسوق السلاح، وسبيل نفيسة البيضاء داخل باب زويلة. إلي جانب الأسبلة انتشرت بالقاهرة كذلك أحواض سقي الدواب، حيث يستطيع أهل المدينة في أي وقت سقي خيولهم وحميرهم وسائر دوابهم، أما المنازل، فقد تكونت أغلبها في العصر العثماني من طابقين أو ثلاثة، وإن وجدت في الأحياء المكتظة بالسكان بعض المنازل ذات أربعة طوابق، وهي مبنية بالطوب الداكن اللون، أما من الداخل فتطلي جدرانها بطبقة لطيفة من الجبس الأبيض الناصع أو بالجير. كما وجد للقاهرة في العصر العثماني مدينتان للموتي، واحدة في الجنوب والأخري في الشرق، عرفت الجنوبية بمقابر الإمام الشافعي وإلي الجنوب منها مقابر السيدة أم قاسم، وتتميز أغلب ترب هذه المقابر بالفخامة وتشتمل علي أحواش كبيرة مخصصة للأسر الموسرة، وعلي ذلك فنحن مدينون للعصر العثماني بتنظيم المدينة التقليدية وذلك قبل حدوث التحولات الكبيرة في القرنين التاسع عشر والعشرين، فحتي ذلك الوقت احتفظت القاهرة بوضعها كمدينة تقليدية لم يطرأ عليها تغيير جذري إلا بعد عام 1869 العاصمة العلوية.. أحياء علي الطريقة الأوروبية كان وصول محمد علي باشا إلي الحكم في مصر عام 1220ه/1805م نقطة تحول مهمة ليس فقط في تاريخ مصر بل وفي تاريخ المدينة، فقد بدأت أعمال نظافة عامة انعكست علي الصحة وندرت الأوبئة بعدها، وتأسست مدرسة الطب في أبي زعبل ثم تحولت إلي شارع قصر العيني، ولتيسير الانتقال داخل القاهرة أمر بإزالة المصاطب الواقعة أمام الدكاكين والتي كان من شأنها تقليل عرض الشوارع وإعاقة السير فيها، وهو ما سبق وفشل فيه الفرنسيون. في عهده تغيرت معالم قلعة الجبل تماما، وأدي هذا التغيير إلي زوال القصور السلطانية القديمة، وحل في مكانها مبان جديدة أهمها دار الضرب، قصر الجوهرة وقصر العدل، كما جدد محمد علي أبواب القلعة الرئيسية وأعاد بناءها، فسد باب المدرج وانشأ باب القلعة العمومي الحالي المعروف بالباب الجديد، وجدد باب السر، كما أن جميع المباني التي يشغلها الآن المتحف الحربي والذي كانت تشغله دار الوثائق القومية، هي أيضا من إنشاء محمد علي باشا، بالإضافة إلي جامعه، فلم يتبق من المدينة الملكية المملوكية سوي جامع الناصر محمد بن قلاوون وبقايا القاعة الأشرفية وأطلال القصر الأبلق. ولإعجابه بالمساكن الريفية، فقد شرع محمد علي في تشييد قصور ريفية ساعدت علي بداية نمو عمراني لاحق، مثل "قصر شبرا" الذي بدأت أعمال تشييده علي شاطئ النيل في المنطقة المعروفة الآن بشبرا الخيمة، وانتقل إليه في العام التالي لإنشائه وجعله مقر إقامته الرئيسي، ولتسهيل الوصول إليه أزال التلول التي كانت خارج باب الحديد، وبعد وفاته تركت الإقامة في هذا القصر، ولكن عمران المكان لم ينقطع، كما أنه عند إنشاء جامعة إبراهيم باشا "عين شمس حاليا" اتخذ قسم كبير من مباني القصر مقرا لكلية الزراعة. كما انشأ محمد علي باشا داخل حدود المدينة الفاطمية سبيلين متميزين علي الطراز العثماني صدقة علي روح اثنين من أبنائه، الأول علي روح طوسون باشا بأول حارة الروم بشارع المعز لدين الله من جهة باب زويلة وبني فوقه كتابا لتعليم الأطفال، وهو مبني بالرخام به شبابيك نحاس بداخلها مزملات رخام يسقي منها الماء عبر البزابيز، والثاني علي الطراز نفسه علي روح ابنه إسماعيل ويعرف بسبيل النحاسين. أما آخر السبل التي زودت بها القاهرة، فكانت سبيل "أم عباس" الذي انشأته بنبه قادن أم عباس باشا الأول، عند تقاطع شارع السيوفية مع شارع الصليبة، وبنت إلي جواره كتابا لتعليم الأطفال، وجاء تخطيطه علي شكل مثمن وهو غير مسبوق في عمارة الأسبلة القاهرية، وواجهته مكسوة بالرخام وزخارفها من طراز الباروك والروكوكو، وسبيل "والدة مصطفي فاضل باشا" في شارع بورسعيد، وسبيل "أم حسين بك" المعروف بسبيل أولاد عنان بأول شارع الجمهورية أمام محطة مصر. ومع حكم الخديو إسماعيل، ظهرت خطة جديدة وتقسيم مختلف لأحياء القاهرة، شملت التوفيقية وباب اللوق والدواوين والحواياتي والقاصد والإنشا والمنيرة، وأهم الشوارع التي اختطت في حي الإسماعيلية الكبير عند إنشائه: شارع بولاق "26 يوليو الآن"، شارع المغربي "عدلي الآن"، شارع المناخ "عبد الخالق ثروت الآن، شارع قصر النيل، شارع عماد الدين، شارع المدابغ "شريف باشا الآن" وشارع مصر العتيقة "طلعت حرب الآن"، كان الطراز الذي تمت عليه المباني المنشأة في هذه الأحياء الجديدة هو طراز المباني الأوروبية، أو حسب تعبير علي مبارك "المبارك الرومية الفخيمة"، وهجر الناس نهائيا الأسلوب القديم. من أهم القصور التي تم بناؤها علي يد أسرة محمد علي، قصر القبة الذي شرع في بنائه إبراهيم باشا، بجوار قبة الأمير يشبك فنسب إليه، وبعد ثورة 1952 اتخذ مقرا رسميا لرئاسة الجمهورية، قصر الزعفران الذي شيده الخديو إسماعيل علي أنقاض قصر الحصوة وأهداه فور الانتهاء منه لوالدته خوشيار هانم وكانت تحيط به حديقة كبيرة مزروعة بنبات الزعفران، ومن هنا جاء اسمه، وقصر عابدين أحد أهم إنجازات عصر إسماعيل، حيث أصبح المقر الرسمي الجديد للحكم في مصر بعد قلعة الجبل وحتي عام 1952. قاهرة الحرية .. برج وكورنيش وعشوائية كان اختراع وسائل النقل الحديثة وظهور السيارة سببا رئيسا في الإسراع إلي تغيير شبكة شوارع الأحياء الجديدة، رغم أن بعض الأحياء السكنية مثل جاردن سيتي، أمكن تعميرها بمعزل عن السكك الحديدية والترام، لكن ضواحي مثل الزيتون والمطرية في شمال المدينة لم تنطلق إلا بعد إنشاء خط سكة حديد، الذي ربطها بميدان المحطة، واستمرت عملية تحديث القاهرة عن طريق إنشاء كبار معدنية جديدة علي النيل مثل كوبري الروضة، كوبري بولاق أبو العلا، كوبري الزمالك، كوبري الإنجليز "كوبري الجلاء الآن"، كوبري عباس، كوبري الملك الصالح، كوبري 6 أكتوبر، واستبدل كوبري الخديو إسماعيل بكوبري جديد هو قصر النيل الآن. ثم حمل شهر يناير عام 1952 أحداثا أليمة للقاهرة، حيث وقع بها حريق هائل في 26 يناير لأسباب ماتزال غامضة، فالمتظاهرون أحرقوا كل ما يمثل الاحتلال الأجنبي والسيطرة الغربية في وسط المدينة، وفي غضون ساعات أضرموا النيران في ميدان الأوبرا وشوارع الجمهورية وعدلي وفؤاد وعبد الخالق ثروت وقصر النيل وميدان مصطفي كامل وشوارع سليمان باشا وشريف وعماد الدين والبستان والبورصة الجديدة وشامبليون وميداني التوفيقية والتحرير، أي أنه استهدف القاهرةالإسماعيلية بمبانيها وعماراتها الأوروبية ذات الطراز المتميز. بعد 23 يوليه 1952، شهدت القاهرة في السنوات العشر الأولي من حكم النظام الجديد إنجازات مهمة في عمليات الإعداد والإنشاء التي تولتها وزارة الشئون البلدية والقروية بقيادة عبد اللطيف البغدادي، وكان أول هذه الإنجازات تنفيذ مشروع "كورنيش النيل"، وفي عام 1961 شيد في أرض الجزيرة "برج القاهرة"، وبدأ بالتزامن مع تلك الفترة ازدياد عدد السكان، خاصة مع الهجرة الداخلية إلي العاصمة، مما نتج عنه انتشار أنماط متعددة من السكن العشوائي حول المدن، أغمضت الدولة الطرف عنها مما أدي إلي استفحال الظاهرة مع استحداث نمط أطلق عليه الإيواء السريع عقب الكوارث الطبيعية، والذي خلق نوعا من السكن المؤقت أصبح بمضي الوقت سكنا دائما. وساد في الوقت نفسه نمط آخر من السكن هو الإقامة في المقابر، وعشوائية هذا النوع ليست عشوائية مادية وإنما عشوائية الممارسين له، فالمقابر القاهرية مخططة داخل التنظيم ومخصصة كمدينة للأموات، لا يمكن لأحد بناء مقبرة دون ترخيص، ولأن بعض حراس المقابر كانوا يقيمون إلي جوارها، استمر الأمر مع أبنائهم وأسرهم، وساعد علي ذلك أن المقابر ذات أحواش كبيرة تشتمل علي غرفة أو أكثر معدة لاستقبال أفراد الأسرة عند زيارتهم لمقابر ذويهم في المناسبات. وفي العقود الثلاثة الأخيرة والتي تولي فيها الرئيس محمد حسني مبارك، تميزت بتوجيه الاهتمام إلي إعادة تأهيل البنية الأساسية للمدينة التي كانت قد أصابها الترهل، وبعد دراسات مطولة أصبحت القاهرة أخيرا أول مدينة في أفريقيا تدخل مترو الأنفاق في ثلاث خطوط إقليمية منذ عام 1987 وجاري تنفيذ خط رابع يصل العتبة بمطار القاهرة، كما شهد العقدان الأخيران من القرن العشرين تشييد بعض المساجد الضخمة مثل جامع الفتح بميدان رمسيس والنور بالعباسية والرحمن الرحيم بطريق صلاح سالم. هكذا، وبعد أكثر من ألف عام من تأسيس مدينة القاهرة، لم يبق من المدينة التاريخية التي شهدت أحداث التاريخ الفاطمي والأيوبي والمملوكي والعثماني، إلا نواة صغيرة لا تزيد مساحتها علي 960 فدانا داخل المدينة الضخمة التي تعدت مساحتها 72 ألف فدان، الأمر الذي يستوجب توجيه الاهتمام لصيانة القاهرة التاريخية ووقف مظاهر التطور العصري التي تزحف عليها.