ربما لو لم يتمّ اختيار عنوان "تقرير عن نفسي"، ما كانت سيرة جريجوار بوييه محفزة للقراءة بحثاً عن حياد مفترض في تقرير يكتبه مؤلف عن نفسه. تساؤل الحياد والإلتزام بفكرة التقرير يصاحب القارئ، علي اعتبار أن مادة الكتاب ليست رواية أو سيرة ذاتية، وإنما تقرير عن حياة يكتبه بوييه نفسه. سرير فرنسي- جزائري يحمل التقرير العديد من الأفكار المثيرة والحكايات الملهمة، لكنها ربما ما كانت ستكون بهذه الجاذبية لولا ما يولده العنوان من تساؤلات.. أننا نقرأ تقرير الكاتب عن نفسه. يحمل التقرير صدقا من نوع ما، أن ذلك حدث بالفعل، والأهم أن الكاتب ليس متورطاً، إنما يسرد لنا ما جري من وقائع، وحكايات يمكن تتبعها، بل الاستدلال عليها، والتأكد منها ومن مدي صدقها بعد القراءة، هذا ما يعدك به الكتاب الذي ترجمه ياسر عبد اللطيف ونشرته الكتبخان بدعم من المركز الثقافي الفرنسي. بداية من الولادة بدأت الجوانب المثيرة في حياة الكاتب، حيث يكتب جريجوار:"عندما حان وقت الحرية الجنسية المزعومة كنت أنا ثمرتها قبل الأوان"، فقد تكوّن في سرير حب جزائري- فرنسي، لأبوين فرنسيين يتشاركان الحب مع طبيب جزائري. لفترة طويلة رفضت أمه الإفصاح عن اسم طبيب مستشفي "تيزي أوزو"، الذي كان متيما بالزوجة الفرنسية الشابة التي حضرت للجزائر للقاء الجندي الشاب المولع بقرع الطبول وموسيقي الجاز. عندما صرحت الأم باسم الطبيب سجله بوييه في دفتر دون أن يسعي للتعرف عليه، وبالمثل لم يفعل هذا الأب الثاني، لكن فصولاً جديدة من الحياة الجنسية المثيرة لوالديه كانت حاضرة أيضاً، في هذه "الطفولة السعيدة"، حسب العنوان الفرعي الوحيد بالكتاب المكون من 118 صفحة من القطع المتوسط. علاقة الأدب بالدجل وصل الكاتب والتشكيلي الفرنسي في وقت مبكر لفهم خاص للكتابة، وتحديداً مع أول موضوع تعبير يكتبه عن روائح أسواق مراكش، حيث يقر: "جعلني ذلك أفكر في الأدب والدجل: فأنا لم أذهب أبدا لمراكش ولا أملك حاسة شم". يلجأ بوييه للتفكير في الأمراض، ودلالتها علي مسار حياته، حينما فقَدَ حاسة الشم، بشكل مؤقت، بعد مرض العنقوديات الذهبية، الاسم الطويل للمرض الذي شغله في طفولته. كما أن هذا التأثير كان مستمرا بعد ذلك، حيث لا يعتبر أن "السرطان" المكون من خمسة أحرف، في الإنجليزية والفرنسية كذلك، خطير، علي العكس من خطورة العنقوديات الذهبية، بسبب كثرة حروفه، رغم أن سبب الإصابة بالأخيركان لعق الطفل لزجاج القطار المُبلل بماء الأمطار. مع العنقوديات فقد بوييه حاسة الشم، وسقط في حب فتاة كانت تجلس بجوار نافذة مبللة بماء الأمطار أيضاً، وكانت هذه الفتاة أماً لابنته الوحيدة. خلال فترة فقدانه لحاسة الشم كان يدعي أنه لا يزال يميز بين الروائح، وهو ما فعله حينما كتب موضوع التعبير الأول، الملازم لتعرفه علي علاقة الكتابة بالكذب. ملجأ "الأدويسا" بعد فترة ضياع يُطلبْ منه كتابة سيرة ذاتية، ليتقدم للعمل بوكالة أنباء، فيقول للمسؤول كيف يكتب عن نفسه سيرة بينما كتب هوميروس ملحمة من عشرة آلاف بيت شعري، حيث يعتقد بوييه أنه نسخة جديدة من "عوليس" وحياته ليست إلا "أوديسا" هوميروس. (رغم ذلك يتمّ قبوله بالوظيفة). كانت الملحمة بمثابة طوق إنقاذ للكاتب من التشرد، حينما كانت أصوات في رأسه تحركه للمكوث في الشارع بعدما تركته حبيبة دون وداع. الأصوات كانت تحركه في مسار محدد، يدور حول ذكري تعود لأكثر من عشرين عاماً. إنه يوم الأحد المصيري، حينما تغيّر كل شيء في حياته. لمح في هذا الأحد، وهو في سن التاسعة، مدام "فينويك"، وهي تغتسل عارية في "البيديه" فتجمد في مكانه. كان المشهد ساحراً وصادما في الوقت نفسه، وتغير كل شيء بعد ذلك. لم يتحدث مع أحد، بل ظل في هذه الصدمة، خاصة أن السيدة كانت والدة لكل من صديقه وصديقته المقربين. تركت هذه الأسرة باريس بعد هذه الواقعة، مما أبقي أثر الصدمة لسنوات. حينما غرق جريجوا في قصة حب خاطفة، دون وعي منه، غادر فرنسا علي إثرها مع فتاة وخاضا رحلة لأمريكا. "كنت قد عشت لمدة ثلاثة أشهر كطفل في التاسعة في جسد رجل في الثلاثين كي أرفع الحصر الذي تركه ذلك العمر في نفسي"، يروي بوييه تفسيره لما جري. داخل مطعم باريسيّ، كان الفراق، بعدما أجبرالكاتب الفتاة علي التعرّف بصحفي ليجد لها فرصة عمل ورحلت مع الأخير ببساطة. بعد ذلك عاش جريجوار فترة في الشارع، ولم يخرج من هذا الفخ إلا بعد قراءة الأوديسا كاملة في ليلة واحدة بمنزل الأسرة. كان عمل هوميروس سببا لخروجه من دوامة وجودية لا شطآن لها. يقر جريجوار بذلك: "ألم أعثر دون تخطيط مسبق علي ملجأ من عشرة آلاف بيت شعري". يستغرق الكاتب في بناء مفارقة أن حياته، وتقريره عنها كذلك، ليسا إلا نسخة أحدث من رحلة "عوليس" في ملحمة شعرية. "كل بيت شعري كأنه كتبْ لي"..هكذا يبدوالتقرير كلغز لا تفك شفرته إلا عند قراءة الأوديسا. ليحمّل كل العلاقات والتجارب بمعان هوميريّة مفيدة. كتاب بوييه ترجمه ياسر عبد اللطيف وصدرت الترجمة مؤخراً عن دار الكتب خان.