ما أصعب أن تكتب عن دم يعرف لغته، حيث لا مجال للتأويل أو البحث عن المفارقات، ما أصعب أن تكتب عن دم يعرف لغته ويعرف بيقين أية عروق يسكن، دم لا يعرف المراوغة، منحاز للفقراء والمهمشين، طامح للحرية دون ادعاء، دم مصري فصيلته "نحن" حين يكون الناس، و "جسدي" حين تخلو للتأمل الحر، ما أصعب أن تتحدث عن شمس واضحة في الظهيرة تقاوم الوحدة باحتضان كائنات الظل، لا تدعي بطولة، مخلوقة نذرت للناس، أو للموت حيث الحقائق ربما أكثر وضوحا بعد رحلة من الوجع ، هكذا سجلت في بعض عباراتها شديدة الشعرية علي صفحتها "البلد دي بقت بتوجع .. ومفيهاش دفا .. ياريت يكون ترابها براح .. وحضن أرضها أوسع من سماها"، في المرات القليلة التي رأيتها كانت مبتسمة دائما، وكنت أعجب من تفاؤلها وحماسها الذي يظهر بوضوح لكل ذي عينين، ففي ورشة العمل بدورة إعداد الملفات الخاصة بترشيح عناصر التراث الثقافي اللامادي التي عقدتها اللجنة الوطنية المصرية لليونسكو عام 2012 كان الجميع مندهشا من فرط حماسها ودأبها وذكائها المتقد، وفي الاستراحات كانت تفيض بالشعر، كانت قصائدها النثرية قصيرة وصادمة، لكنها تتقطر بالصدق، قصائد تشبهها وتشبه حكاياتها عن الأسكندرية ومقاهيها وعن "بلال" وعن رحلاتها الميدانية خاصة في عشوائيات الأسكندرية ورحلاتها إلي مطروح وما واجهته من مصاعب لا يمكن أن يتحملها باحث، أكانت شيماء الصباغ تبحث عن إجابة للغز الوجود أم أنها كانت تعاين الإجابة في وجوه الناس، في التحامها بهم، أتراها كانت تدرك بوعي حاد كنصل أن الحقيقة غير ما نراها ، وأنها لا تكمن في الثوابت المتواترة والتي صارت من فرط تواترها مدعاة للسخرية، أكانت تهرب من وهم الجموع إلي ذاتها حين تكتب قصائد مشغولة بيقين الجسد الذي تعرفه والأماكن التي كتبت روحها ، فحين كتبت شعرا لم تكتب قصيدة الشعار، ولم يبن إلا انحيازها لما تعرف من تعاريج ذاتها وأشيائها اللصيقة، أكانت الذات ملجأها لقراءة الخارج، هكذا تكتب شيماء الصباغ سيرة ذاتية للحاجات؛ أية حاجات تسجل بحروفها ملامحها اكتملت برحيلها الآن دون مواربة ، حيث تضحك ضحكتها الساخرة من مجرد اليقظة المباغتة التي تدعوها للتنقيب في جذور العائلة ونسبها وفروعها ، ويكشف لها وهم التفكير تفكير الجموع أن الحقيقة لا تكمن في هذا النوع من العلاقات البيولوجية ، لكن الحقيقة تسكن فيما تملكه ، في لحظة المعاينة حيث الجسد الذي أدركته ووعت حالاته وتفاصيله ، شبقه ، فيما تملك من قلب يواصل غفران الذنوب وعين لماحة قادرة علي الفرز، فلا تخلو جملها من تشغيل للحواس بشكل تتسع معه الدوال عبر تجاور المقاطع الشعرية : والله حاجه تضحك لما تقومي في نص الليل تنكشي شجرة العيله ولما تبتدي التفكير تلاقي نفسك مالكه حقيقه مش جذور عيله وفروع نسب وعبر ومضات شعرية تصيد مشهدا يعكس تعلقها بالأسكندرية الحبيبة التي ارتبطت بها عاكسة المفارقة بينها وبين القاهرة ، فالأسكندرية "قهاوي نص البلد.. فجر باليود" بينما القاهرة "ليل منزوع الدسم .. مظاهره الحكومة فيها أكتر من الناس .. كوباية شاي بالهم والوحده"، وشيماء الصباغ مشغولة بتفاصيلها خاصة شنطتها بوصفها حاوية التفاصيل والأنيسة في السفر والصديقة التي تسر إليها بتفاصيلها ، وسنجد مفردة "الشنطه" مهيمنة علي أكثر من نص لها لتعكس ما بها من أشياء هي جماع ما تملكه من سفر وشعر وحياة بكاملها ، فالحياة هنا علي بساطتها ومفارقاتها في الحقيبة، فلا حاجة لها بحياة خارج ذاتها وتفاصيلها المشحونة بالصدق : "وشنطة إيدي غلسه النهارده مليانه تذكرة قطر كشكول بيزك علي محاضره .. ومحاضره لأ" قلم من غير سنون كام قصيده مش كاملين فتافيت البسكويت البايته هدومي الداخليه وطبعا عايزه غسيل وانا لسه بشتغل زي زمان مجرد ملاغية أراجوز" وعبر قصيدة بديعة تستخدم فيها "الشنطه" بوصفها الدال المشع الذي يتسع بالدلالة ليمسك بذات حرة تترك لحاجاتها حرية التصرف والتجول والألم والاندهاش والمشاهدة ، لتستعيد من خلال حقيبتها تأمل العالم بتناقضاته الصارخة : "يا تري هي عامله إيه دلوقت حاسه بالخوف قرفانه من ريحة عرق حد ما تعرفوش متضايقه من الشوارع الجديده لو وقفت علي محل من المحلات اللي روحناها سوا ها تعجبها نفس الحاجه علي العموم هي معاها مفتاح الشقه وانا مستنياها " فهل لازالت شيماء الصباغ تنتظر "شنطتها"، وما الذي ستحكيه حقيبتها للناس وللشوارع وللأسكندرية عن غيابها حين تفتح الباب فلا تجد إلا ذكريات عاشقة حقيقية لأرض وتراب مصر التي سجلتها في دفترها فاكتمل برحيلها وننتظر أن نقرأه كاملا، مع السلامة شيماء الصباغ الرقيقة، النبيلة، فصوتك لن يكف عن مكاشفة الحقيقة بالشعر ليكشف لنا تناقضات الوجود وبهاء الموت .