محمد إبراهبم مبروك ابن الجيل الذي لم أعش محنته، ولو أني عشقت زمنه. جيل توهج بالحلم ورسخ في ضمير الإبداع المصري بالكلمة والمعني وكل طاقات التعبير الممكنة عن حياته ووجوده. كان مبروك يمنح حياته، وحياتنا معه، فرصة لاقتناص لحظة متوجة بالحياة ومليئة بأجمل ما في العمر من إرادة للبقاء، هذه اللحظة هي كل عمره الذي قضاه بيننا، وكان يمكن أن يمضي دون أن يشعر به أحد وقت أن حاصره اليأس، لكنه كتب لنفسه ميلاداً جديداً، وعلّم نفسه لغة جديدة، يراوغ الأحرف ويبتدئ الكتابة من جهة معاكسة، يرهف إلي الصوت في انتباهة مشحونة بالرجاء، ويمهد للكلمات سياقا من إمكانات حضور. معان ممتدة في أزمنة متجددة بقوة الأمل في الحياة، الأمل الذي كان يشتق منه إطلالته المعهودة بابتسامة كبيرة. يغالب بها كل الأوقات الصعبة. كنت ألتقي به وقد امتلأت سماء القاهرة بالدخان والبارودن أجتاز معه ميادين تغلي بالغضب، وأتعثر وأسقط في دوامات من الحيرة. لكنه يتجاوز كل ما يجري بكلمة يزيح بها أطنانا من الشقاء. كان مبروك قد قرر منذ زمن بعيد أن يضع جانباً ورقة لم تكتمل من مشروع الكتابة الروائية، ليلتقط قلماً للترجمة عن الإسبانية. لماذا الإسبانية؟ سألته ذات مرة، فقال لي إنها الرواية التي قرأها مترجمة، وكانت نداهته التي سلبت روحه وقد عقدت له شباكها عند شاطئ بحر بغير قرار. لكن هل ستكتب مرة أخري؟ يحتار ويقول إن الترجمة هي شاطئه الأول الذي اشتق منه نبعان، الأول لديستويفسكي عندما قرأه وهو في الثامنة عشرة، والثاني لماركيز منذ اللحظة الأولي التي طالع فيها ترجمة لإحدي رواياته القصيرة. عشرون عاماً انقضت وهو يحاول أن يقيم جسراً بين نصوص ابتذلتها أيدي المترجمين (الحواة) إلي نصوص ينسجها المبدعون بإحساسهم ومكابدتهم تجربة الكتابة الحقيقية. عشرون عاماً انقضت حتي ترجم "وسم السيف"، حتي انتقل من موت محقق إلي مرساة واعدة بشطآن نجاة. كانت الكلمات تشتق لنفسها طريقا عبر دروب شتي، كراسة النديم، غاليري، وهو يتصور أن ثمة شاطئ يتلقف القادمين إلي زمن كتابة آتٍ. كان محمد إبراهيم مبروك صاحب رؤية صحيحة جداً في الترجمة الأدبية، تلقي علي عاتق المبدع بمسؤولية إنجاز مكافئ ينقل وهج المعني وسخونة الحس كما يتبدي في كيان الأصل. وكان مبروك قد أودع لدي ورقة تلخص مشواره في الترجمة، وذلك في إطار إهتمامي الشخصي بتسجيل تجربة المشروعات الإبداعية لمترجمينا العرب، وحان لي مطالعتها، فاستوقفتني فيها عبارة موجزة جداً، لكنها مشحونة بدلالة مهمة تشير إلي رمزية مشروعات التحول الكبري في حياة المصريين في منتصف القرن الماضي. رمزية ماثلة في تصورات ألهمت العم مبروك بفكرة المعالجة الفنية للأثر الأدبي عند الترجمة. معالجة تقوم علي معاينة الموقف الجمالي كأنه بضعة من أثر فذ. كأنه أحد تلك المعابد التي توشك علي الغرق تحت مياه نهر متحول. مياه حياة أسطورية دافقة بالمعجزة. المبدع في مبروك المترجم كان يطالع هياكل واعدة بأسرار حياة، وقد عرف كيف يزيل الأعمدة ويفكك الجدران ليعيد بناء صرح جديد ناطق بالروعة والجلال. العم مبروك كان أجمل الباقين من عصر صُنّاع الحياة، وقد آثر أن يمضي بعد أربعة شهور من صمت مطبق. صمت بدا غريبًا بالنسبة له، وهو الناطق دوماً..المتفائل باستمرار..حتي وهو يحكي لي تفاصيل مراحل العلاج. مرحلة طالت جداً وكأنها بدء انتقال جديد من متن مفعم بالصمت إلي مسرد متوهج بأزل الخلود. لكن أشياء كثيرة استعصت علي الزوال. أوراق بقيت ممهورة بخطوط رمادية. أوراق ترجمة جديدة كنت أعطيتها له وكان يصحح لي بالقلم الرصاص، يقول: انتظر حتي أخرج سليما معافيًا ونطالع المتن معاً. لكن الصفحة انطوت، ولم يعد باق منك سوي خطوط متناثرة، مثل كنز باق. أطالعها وأتملّي من بقية أنوارك، أتأملك مثل ياقوتة تبددت فتفرقت نثار ألق ينبض حياة باقية في قلب محبيك.