يتسم النبلاء عادة بسماتٍ تكاد تكون واحدة، منها أنهم ولأنهم حقيقيون يبحثون عن كلّ ما يشبههم، وقد يضحون بأنفسهم في سبيل وضع الحقيقة تحت ضوء ساطع، وهم عادة يكتشفون دررًا نادرة يحنون عليها ويسهرون ليال طويلة من أجل رعايتها ثم يقدمونها للعالم، علَّه يستمتع ببريقها ويستفيد من رؤاها ودعوتها لتهدئة جنون المدمرين، وللتنديد بحروب يزمع بعض الأبالسة إشعالها، ولوقف إرهاب الإرهابيين، ولتهذيب روح الأشرار، ولوأد فتنة تلوح في الأفق بين أولاد آدم عليه السلام، ولدرء جشع نفوس بعض البشر. والمبدع «محمد إبراهيم مبروك» مواليد 1943 المنوفية مصر أحدُ النبلاء الحقيقيين الذين يعرفهم الوسط الثقافي والإبداعي في مصر، بدأ مسيرته الأدبية بكتابة القصة القصيرة، وعندما نشر أولى قصصه القصيرة احتفى رائد القصة القصيرة المبدع الكبير «يحيي حقي» بموهبته وصوته المتفرد، ولكن «محمد إبراهيم مبروك» هرب من الزهو بالاحتفاء وترك الإبداع بعد مجموعة قصصية وحيدة هي»عطشى لماء البحر» والتي صدرت عام 1984. ترك كل ذلك بمجرد أن سحره أدب أمريكا اللاتينية بعد أن قرأ رائعة الراحل «ماركيز» «ليس لدى الكولونيل مَن يكاتبه»، فقرر أن يتعلم اللغة الإسبانية، ويتفرغ لترجمة أدب أمريكا اللاتينية، وربما هي الحالة الأولى في تاريخ الترجمة أن يتعلم مبدع متحقق لغة أجنبية ما في سن كبيرة نسبيًا لكي يترجم الآثار الإبداعية المهمة لأدباء هذه اللغة! وهكذا ظلَّ المبدع «محمد إبراهيم مبروك» يثري المكتبة العربية بترجمة أعمال كبار كُتَّاب أمريكا اللاتينية مثل.. بورخيس.. لوجونيس.. إيزابيل الليندي.. خيرار دو ماريا.. إييارجنجوتيا.. أرتور.. أوسلار بيتري، وآخرين. ظل يترجم طوال الوقت كأنه يكتب، يترجم ليضع عناوين جديدة لأسماء جديدة في المكتبة العربية بروح راهبٍ ومبدعٍ يعرف جيدًا قيمة الإبداع وأمانة نقل النصِّ دون قتل روحه. ومَن منا لا يتذكر رائعتيه على سبيل المثال لا الحصر: «وسم السيف» و «رقص الطبول»؟ أهدى «محمد إبراهيم مبروك» للمكتبة العربية من خلال سلسلة الجوائز بالهيئة المصرية العامة للكتاب مجموعتين قصصيتين من أعمال الكاتبة المكسيكية «أمبارو دابيلا» المولودة عام 1928، بمدينة ثاكاتيكاس، و هي واحدة من أهم كُتَّاب المكسيك في القرن العشرين، ويتحدثون عنها هناك بوصفها «مايسترو» القصة القصيرة، ولقد أسهمت كتاباتها في دفع موجة التجديد بالقارة، وعلى الرغم من قلة إنتاجها فإنهم يعتبرونها من أوائل المؤسسين لأدب أمريكا اللاتينية. وفي مجموعتيها «حين تقطَّعتْ الأوصال» و «أشجار متحجرة» اللتين ترجمهما «محمد إبراهيم مبروك» بلغة شاعرية آسرة حافظت على تفرد أسلوب «أمبارو دابيلا».. ذلك الأسلوب السردي الذي يحلق وحده في فضاءات غير مطروقة من قبل أبدًا وفي غاباتِ مشاعر بكر لم يطأها كاتبٌ قبلها، فهي تسعى من خلال قصصها القصيرة الفاتنة إلى اكتشاف العالم الداخلي الصاخب والغامض والمخيف لشخوصها. ومن خلال بناء محكم تمزج الخيالي بالواقعي، وتمزج التوتر الخارجي للإنسان بتوتره الداخلي، وتحنو على تفاصيله وأشيائه وكوابيسه وهلوساته من خلال عشرات الحكايات التي تتقاطع مع حيوات البشر في كلِّ زمان وكلِّ مكان. تأخذ «أمبارو دابيلا» بيد أبطالها نحو أحلامهم وطموحاتهم، وتدلهم على كيفية تذليل ما يعترضهم من إخفاقات، لكي ينعتقوا من دوائر حصار العالم وحصار ذواتهم الكابوسي، ويتغلبوا على كلِّ منغصات الحياة كالحقد والكراهية والعدوانية والخوف والوحدة، ثم ينطلقوا إلى آفاق أرحب. وفي المجموعتين تنتقل «أمبارو دابيلا» عبر تنوع بالغ الثراء لشخوص تُعالج ما يمور بداخلهم بمشرط كاتبة شديدة الرهافة والشاعرية، وهي تتجول بسلاسة ونعومة بين وحدتهم، وتفاصيل حياتهم اليومية الشائكة، ومآزقهم الوجودية، وأحلامهم وهزائمهم، وتفتش في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم متحكمة في أدق تفاصيل السرد، وواضعة أمام عينيها رغبة عارمة ومدهشة لاكتشاف ماهية الذات الإنسانية وصراعها مع الكون الشاسع من حولها. ومن أجواء مجموعة «أمبارو دابيلا» «أشجار متحجرة» ومن قصة بالعنوان نفسه.. (الطيور تحوم بين أغصان الأشجار، وتتساقط الأوراق، ننظر إلى واجهة كنيسة قديمة، بين الضباب الحار في طلعة النهار، ننظر إلى الأعمدة والطاقات، كما لو كان ذلك من خلال التذكر، لا تتكلم الآن، احتفظ بي بين يديكَ... نحيا ليلة دائمة لنا. أتشبث بيديك وبعينيكَ. إنه شديد الوضوح هذا الصمت الذي يصغي إليه دمنا، الإنارة في الشوارع شحبت. ولا روح حية واحدة تعبر من أية ناحية. والأشجار التي تحيط بنا كانت متحجرة.. ربما نحن أموات.. ربما نحن أكثر نأيًا عن جسدينا). المبدع والمترجم «محمد إبراهيم مبروك» يصارع المرض الخبيث الآن في معهد ناصر للأورام، ولأنني لم أعتد طلب إنقاذ حياة مبدع وعلاجه حيث أرى أن علاجهم وعلاج أيّ مصري بشكلٍ عام هو واجب وفرض عين على الحكومة ووزارة صحتها فإنني أتمنى الشفاء العاجل ل «محمد إبراهيم مبروك» وأقول له: إن سلسلة الجوائز تنتظر آخر أعمال «أمبارو دابيلا» بعنوان «موسيقى حية» والتي تعاقدنا على ترجمتها، وبالطبع بتوقيعكَ أنتَ بالذات أيها المبدع النبيل.