في ديوانه الجديد "أكلتُ ثلاثَ سمكات وغلبني النوم" يتجول عصام أبو زيد بين خرائب العالم غير عابئ بأطلال المعاني والمباني. ينتظر حبيبةً يعرف أنها لن تجيء. يحلم بالماضي، ويتذكر المستقبل، ويهرب من شئ عظيم لا يعرفه. يسكر ويبكي، ويطوح مطرقته السريالية مدفوعا برغبة جارفة في القتل.. قتل الواقع وتدمير كل الأسوار والجدران، يمكنك أن تراه علي جناحِ طائرةٍ يحاول الإمساك بالسماءَ وامتصاص لونَها الأزرق. يسير قليلاً ويحلق كثيرا، ثم يتوقف وهو يفردُ أيامه ويطويها باحثا عن عطر يسيل من وردة ميتة، أو نغمة شاردة من جيتار مكسور. لا يمل الحديث عن الحب، لكن الحب عنده لا يشبه الحب القديم في شئ، لأنه "لم يعد ينتجُ شيئاً يستحقُ أن نحياه (...) انتهي عمرُهُ الافتراضي" (....) وأرغبُ في تجربةٍ عاطفيةٍ جديدةٍ مستوحاةٍ من أحدِ أفلامِ الرعب، كأن أنزعَ رموشَ عينيكِ وأنا أبتسمُ في هدوء، ثم أفكرُ في مستقبلِ علاقتنا بعد كل هذهِ الكوارث" عرفت أبو زيد في منتصف التسعينات مع صدور ديوانه الثاني "ضلوع ناقصة"، واستفزني عالمه الشعري الخاص، فطلبت ديوانه الأول "النبوءة" الذي صدر في مطلع التسعينات وكان عصام لا يزال في السابعة عشر من عمره، فبدا لي "حالة رامبوية" لا تنتمي إلي الجسد الشعري العربي، ولم أستطع أن أضع تصورا نقديا عن هذه الأشعار المبعثرة التي تبدو أشبه بهلوسات لا تخضع لأي منطق خارجي، حتي أسلوب "الهذيان" الشعري الذي كان يروج له حينذاك المغربي محمد بنيس، وقد وتوقفت أمام قصيدة في ديوان السمكات بعنوان "هلوسات ليلة الأنفلونزا" وحاولت أن اتخذ منها شيفرة ترشدني إلي مفتاح هذا العالم الشعري المغلق، لكن القصيدة كانت في ذاتها مجرد متاهة أسطورية مصنوعة للتضليل أكثر منها للإرشاد، حتي أنها تبدو وحيدة ومتفردة في بنيتها اللغوية وطريقة كتابتها النثرية الصماء "كنتُ أمتلكُ فندقاً في الشارعِ القريبِ من الصحراء، أو هكذا كنتُ أعتقد. دخلتُ غرفتي وفوقَ السريرِ ارتميتُ. كانَ السقفُ أبيض كما تركتُهُ، والخيطُ الرفيعُ الذي يطوحه الهواءُ يتدلي من السقف. هذا الخيطُ لا يراه سواي، لكنه حقيقيٌّ وواقعي، وأحياناً كنتُ أسحبه بيدي وأهزه هزَّاً عنيفاً فيترنحُ الفندقُ بالكاملِ ويتناثرُ مع الريح. كانَ مشهدُ نزلاء الفندق وهم يتطايرون الواحد تلو الآخر يجعلني أموت. أموتُ بسببِ جرعةٍ زائدةٍ من الضحك" وبعد سنوات غاب عني عصام، فارق القاهرة أولا إلي بلدته في الصعيد، ومنها إلي السعودية ليواصل رحلة هروب سيزيفية، ربما دفعه إليها شعور خفي بالانجذاب لأيام التكوين الأولي، حيث قضي طفولته وصباه في قرية "النصباء" بمحافظة المندق بمنطقة الباحة. اختفي الشاعر النزق ليتحرر من سطوة الأسئلة الواقعية التي طاردته في القاهرة، فأراد الهروب من "الحياة" إلي "الحياة"، ولا أدري (ولا هو يدري) من ماذا يهرب بالضبط؟ ولا عن ماذا يبحث بالضبط؟، لكننا ندري أن "الحياة" التي يهرب منها ليست "الحياة" التي يطارد ظلها، فهو لا يعرف ملامحها جيدا، ولا يصنع لها تاريخا أو معالم، إنها مجرد شذرات وأطياف "نحن جئنا من قلبِ مغارةٍ مظلمةٍ ولم يكن ضرورياً أن نخرجَ إلي النور أنا خرجتُ لأنني ولدٌ طائشٌ ومجنون. مصيبتي أن الرفاقَ في المغارةِ يطالبونني الآنَ بالرحيل إلي أينَ أذهبُ في هذهِ الحياة... أينَ أذهبُ؟!" ابتعد عصام عن الشعر، لكنه ظل يراود اللغة من خلال عمله بالتدريس مرة، وبالصحافة مرات، والغريب أنه عندما عاد للإبداع بعد 15 عاما لم يأت بالقصيدة، بل عاد برواية عنوانها "يوميات ناقل أسرار" صدرت عن مطبوعات نادي الجوف الأدبي بالسعودية عام 2011م، لكن الشعر سرعان ما انتفض غيورا، وفي العام التالي أصدر عصام ديوانه الثالث بعنوان تجاري غريب هو "كيف تصنع كتاباً يحقق أعلي مبيعات؟"، تلاه هذا العام بديوان "السمكات" من دون أن نعرف لماذا توقف كل هذه السنوات؟، ولماذا عاد؟. كنت أتصور أن الشاعر احترق داخل أبو زيد، وأنه مضي في طريق رامبو، فلم التفت لروايته، واعتبرتها مجرد حيلة من صحفي يسعي للبقاء علي قيد الكتابة، لكن عودته الشعرية عام 2012 أربكتني، وفكرت أولا أنها ربما تغريدة البجعة الأخيرة مدعومة بقصائد قديمة تم ترميمها شعريا كنوع من المقاومة وتلبية فرصة متاحة للنشر، لكن عندما أرسل لي مخطوطة ديوانه الرابع، وقرأت القصائد، تذكرت تجربة بول فاليري الذي توقف عن الشعر سنوات طويلة، ثم عاد بقصيدته الخالدة " بارك إلهة المصير الشابة" والتي تعكس أجواء رمزية وفلسفية تشبه أجواء قصائد ابو زيد، مع فارق هام هو إنشغال فاليري بالسماء والوجود المطلق بينما ينغمس أبو زيد في الأرض وتفاصيل الحياة اليومية، ولكن من دون تنازل عن تلك الغلالة الأسطورية الفريدة التي منحت اليومي في أشعاره نوعا من الخلود الفني المميز. عقب قراءتي للديوان الرابع، انتبهت إلي الديوان الخامس وهو الديوان الذي عاشه الشاعر ولم يكتبه، والذي يمكن تسميته "ديوان الصمت" في الفترة من منتصف التسعينات وحتي عام 2012، كان عصام خلال هذه السنوات يتحرك في الواقع مثل مياه أمطار تنحدر من فوق تلة غير مرئية، وتتخذ مساراتها بلا مجري، وكأنها ترسم لوحة اعتباطية بلا مخطط مسبق، وربما لذلك وضع عصام في مقدمة ديوان العودة (كيف تصنع كتابا..) عبارة لباولو كويلهو تقول: "الشجاعة التي نبديها علي الطريق هي وحدها التي تتيح للطريق أن يظهر".. هكذا عاش عصام سنوات الصمت، وهكذا تذكرها مموهة بالشعر، وهكذا نقش أساطيره العصرية بلغة اليوم التي تتضمن مرادفات عن موسيقي الروك آند رول، ورقصات الهيب هوب، والمياه الغازية، والهاتف المحمول، والرسائل القصيرة، والأسانسير، وقاعة الديسكو ....إلخ، لم يحدثنا عن آلهة، بل عاهرات تعيسات، وعاشق مفلس محطم لا يسعي إلي متعة الجنس بقدر مايسعي إلي الأمان "أضعُ وردةً حمراءَ في صحنٍ أبيضَ وأقدمها للعاهرة لا مالَ معي ولم أكن أحتاجُ إلي الجنسِ كثيراً لكني آويتُ هارباً إليها من شيء عظيم سألتني لماذا تختنقُ هكذا قلتُ لا شيء. عطشانُ وأريدُ أن أشرب فسقتني من ماءِ عينيها حنانَ كلِ الأمهات وضمتني إلي صدرِها وبكيت" هذا الوجع الأزلي هو الأسطورة الوحيدة في أشعار أبو زيد، "كانَ يفكرُ أنه شخصٌ آخرُ وتثيرُهُ جداً هذهِ اللعبة"، كان متعبا، هاربا، مهووسا بالعطر، حزينا علي جيتاره المكسور، يملأ جيبه بالشيكولاتة وينتظر حبيبة يعرف أنها لن تأتي، يمتهن القواعد لأنها تمتهن حريته وتغذي ضياعه، يسرق الحب لكي يحمي أنانيته، ويسخر من كل شئ حتي لا يأكله التبلد وتحنطه الجهامة. مقتطفات من "ديوان أكلت ثلاث سمكات وغلبني النوم"
لا تحبها كثيراً. لا تحبها خُذْ من يديها عطرَ أيامِ السعادةِ واهجرها سريعاً لا وقتَ في الدنيا لانتظارِ سفينةٍ نصف ركابِها غرقي.
أحبكِ وأنا أقعدُ في "كوستا" وأتأملُ بنطلونَكِ الجينز وأقولُ لنفسي: لن تنقلنا الكلماتُ إلي عالمٍ آخر سنظلُ هنا مع كل هؤلاءِ الحمقي
تعالي غداً واخطفيني كوني ساحرةً شريرةً أركبُ خلفها مكنسةً قديمةً ونطيرُ إلي قلعةِ المستحيل لا أعترفُ بالمستحيلِ لكنه تقليدٌ لطيفٌ في حياتنا الكسيحة تقليدٌ نبررُ به عجزنا عن الوقوفِ والاستمرار
وأرانا في منتصفِ الطريقِ نشعلُ معركةً وهميةً ثم نختفي معَ الجنودِ الهاربينَ في سحابةِ الغبار صدقيني، هذهِ المحبةُ الجارفةُ لن تعيشَ عاماً آخرَ إحساسي العميقُ بالنهايةِ يتعاظمُ كل يوم دعينا نبحثُ في الحلولِ الممكنة
أحبُ موسيقي الروك آند رول ومذاقَ القرنفلِ الصاخب
أحبُ أن تكونَ في غرفتي صالةُ ديسكو وأحبُ أن يكونَ في الغرفةِ سلمٌ كلما انفعلتُ رفعني إلي أعلي لأشقَ السقفَ وفي الفضاءِ أطير... ثم أشتاقُ إلي الغرفةِ فأعودُ إليها. وأحبُ أن تكونَ قربَ السريرِ ساقيةٌ حمراءُ تنثرُ قطراتِ ضوءٍ علي شعري الأسودِ الفاحمِ الغزير. الأفكارُ كلها مرتبطةٌ بخصيلاتِ شعري. لا شيء في رأسي. رأسي فارغةٌ تماماً. أفكرُ طوالَ الوقتِ خارجَ رأسي.
أوصاني أبوكِ يا زُبيدة أن أشتري لكِ البحرَ مع البيوتِ القريبةِ الملونة
شيء يشبه الحنينَ يغلبني الآن شيء لا أظنه سيدوم.
"قطعةُ الصلصالِ التي رميتَها في وجهي وقلتَ اصنعي بها حياتَكِ. أنا صنعتُ بها حياتي. صنعتُ قهوتيَ المُرةَ وراقبتُ حطباً مشتعلاً بين صخرتين. راقبتُهُ وهو يتحولُ إلي كائناتٍ جميلةٍ من رماد"
"عندي فكرةٌ جيدة: سأحبك حتي نهايةِ العام، ثم أختفي صعبٌ أن يدومَ هذا الحبّ طويلاً"