أعمل في جريدة الأهرام، في تلك الجريدة اليومية العتيقة التي أسسها هذا اللبناني نيقولا أو بشارة ! لا أذكر اسمه ولا أستطيع القيام من مجلسي لأري عددا من أعداد الجريدة وأتيقن من الإسم! هل كانوا اثنين أم واحد لا أعرف ولا أريد. كل ما أريد قوله لن يتعدي الصفحة وقد يصبح صفحتين ولكن المؤكد إنه لن يعود بنفع علي أحد سواي، فحديثي يهون علي أمري وما أعانيه. ريفي أنا كغالبية من يكتبون قصصهم في بلادنا، فغيرهم لا تحمل حياته ما يستحق التسجيل ولا تحتمل نفسه مشقة هذا التسجيل، كنت أتمني أن أبدأ قصتي بالبداية المعتادة حول الأب الذي مات وترك لنا قيراطين والأم التي ربتنا وتعبت وشقيت ثم مرضت وماتت ولم تنتظر أن يعوضها أولادها عن سنين الضنك والعوز إلي نهاية القصة المعروفة. ولكن قصتي تختلف قليلًا.. مات أبي في الخامسة والأربعين بداء الكبد الوبائي علي سرير في عنبر يضم إثني عشر مريضا غيره في المستشفي الجامعي، كانت بطنه قد انتفخت في أيامه الأخيرة كجثة في بداية تحللها توشك علي الإنفجار، لم نعرف لأبي عملا محددا، كان كبقية أقرانه فلاحا ولا يختلف عنهم في شيء سوي بأن عمره لم يطل ليزرع يومًا في ملكه الخاص، عاش يزرع لغيره، ولكننا كنا ومازلنا مستورين لم نحتج يومًا لشيء ولم نجده. مازالت أمي كما كانت قبل وبعد وفاة أبي تبيع اللبن والجبن القريش في بندر المحافظة تقوم مبكرة تصلي الفجر وتأخذ قطار المراكز لتصل في نصف ساعة تقوم بعدها بالفرش أمام المسجد الكبير ويتوافد عليها زبائنها، لا تأتي صلاة الظهر عليها إلا وقد انتهت من بيع كل ما لديها، كان السر كما كانت تقول في اللسان الحلو والناس يا بني بتحب اللسان الحلو، كان الخميس والجمعة أجازتها الأسبوعية تعد لنا فيها أرز معمر وقد نذبح طيرا ونتحلق حولها وأحيانا نسهر ليلاً أمام الراكية نشوي ذرة أو فول سوداني وقد يغط أحدنا في النوم ووقتها تقوم أمي معلنة نهاية الجلسة . مازالت أمي تعمل بنفس الهمة القديمة وإن أصبح العمل يومين في الأسبوع بدلًا من خمسة. كانت تعود إلينا عصرًا تأكل لقيمات قليلة وتستعد لليوم التالي ترص الجبن في أدوار متتالية، وتملأ الزجاجات البلاستيكية باللبن وتتأكد من وجود عدة قطع من جبن الماعز لواحدة من زبائنها تشكو علة ما، وتحرص كل الحرص علي إعداد صينية المش فهو ما يتخطفه الناس أولاً ولا تنسي وضع بضع حزم الجرجير مع السريس والكرفس في حمولتها لأن لهم زبائنهم، ثم تصلي العشاء وتذهب للنوم مبكرا لتكرر الكرة مرة أخري . وعندما ذهبت للعمل في القاهرة أصبحت في كل زيارة لها أتزود بحمولة يتهافت عليها زملائي وما أجنيه أرجع به لأضعه في يدها في الزيارة المقبلة فتضحك وتقول ده عيديتك يامحمد أقبل يدها وأضعهم في حجرها مضيفا إليهم مايتيسر لي من مرتبي. كل هذه المقدمة الطويلة لم؟ لا أعرف! لم أذكر لكم أني أعمل في صفحة الوفيات! ولكني أعمل بها منذ وطئت قدماي المؤسسة العريقة الغافية في شارع الجلاء،في أكثر الصفحات قراءة في مصر كما يدعي زملائي ! وظيفتي أن أقوم كل يوم بعرض مقاسات النعي علي الزبون وثمنه الذي سيتحدد علي حسب المكان والمقاس واليوم فيوم الجمعة يختلف سعره عن بقية الأيام وإن كانت الصفحة اليمني فسعرها يختلف عن اليسري والنعي في أقصي اليمين غير النعي في أقصي اليسار، ووضعه من الصفحة إن كان في أولها أو آخرها له ثمن .. كلٌ بثمنه والزبون هو من يحدد. رأيت الكثير في حياتي من مواقف لا تليق بحرمة الميت فيومًا ما زارتنا سيدة في أوائل الأربعينات وطلبت نعيًا لوالدها وعندما أبلغتها الثمن ضحكت ضحكة رقيعة وعقبت: مايستاهلش أنا كنت عاملاها عشان الزباين يعرفوا المحل. ولكن يظل موقف وحيد لا يبارح ذاكرتي وينغص علي عيشي رغم رأي زميلي بشأنه إنه تافه ولا يستحق كل هذا الكدر! حدث منذ سنتين أن دخل علينا رجل في أواسط الخمسينات أشيب ويضع خرزة زرقاء في عنقه معلقة في سلسلة ذهبية. طلب منا نشر نعي فقدمت له علي الفور بدت وقتها لي بلاهة قروية النماذج المسيحية مثل رقد علي رجاء القيامة، مع المسيح ذاك أفضل، إلي آخره.. فابتسم لي في وهن وقال: أريد نعي لميت مسلم. أجفلت واعتذرت وأخرجت له النماذج الإسلامية اختار آية "يا أيتها النفس المطمئنة" وقد كانت ومازالت محل اختيار غالبية من يأتون إلينا في الجريدة لينعوا معارفهم فالكل يتمني أن يكون فقيده من النفوس المطمئنة، وللدقة فالبعض يتمني هذا والبعض الآخر لا تفرق معه، رحبت به وأجلسته وعرضت عليه مقاسات النعي الذي يريده فاختار سريعًا أفضل وأغلي ما يمكن عرضه واتفقنا علي الثمن وبالفعل دفع النقود سريعًا وكانت عيناه غائمتين بالدموع. طلبت منه معلومات النعي إسم المتوفي وأقربائه ونص النعي فقدم لي المعلومات بدقه وكإنه حفظها في ذهنه قبل أن يأتي! ولكن لفت نظري إسم الميت أو بالأحري الميتة سألته هل هي الراقصة فلانة فأشار بالإيجاب وسط شلال من الدموع بلا صوت. أجبته بوقاحة: وهي الرقاصة بقت نفس مطمئنة؟! و عقبت بنفس الوقاحة: عجبت لك يا زمن! بعدها بثوان لم أتبين ما حدث لي كنت ملقي علي الأرض ينزف رأسي وزملائي يهدئون الرجل بعدها طالب الرجل بنقوده وخرج لا يلوي علي شيء فقط كان يبكي بكاءً حاراً. جلست في مكاني ونظر لي زميل لي بعتاب قائلا: وانت عرفت منين خواتيم الناس؟ وانفض الزملاء وبقيت جالسًا وحدي مُهملا ورغم حنقي علي الرجل أحسست ببداية وخز للضمير شعرت أن كلمتي خرجت من حيزها الضيق إلي فضاء واسع وأن الكل عرفها وبات البعض يحتقرني والبعض الآخر يحتقر الراقصة! وسواء هؤلاء أو أولئك فالحق علي أنا وحدي . لم أعرف هل نشر الرجل النعي في مكان آخر أم عدل عن ذلك ولكن ما أعرفه جيدًا أن وجعي الداخلي عليه أخذ يكبر إلي أن تحول إلي حزن مقيم بكيت كثيرًا واستغفرت كثيرًا حتي أني طالبت بنقلي من القسم إلي قسم آخر. كنت أتمني مقابلة الرجل مرة أخري لأنال عفوه وعندما بحثت وتقصيت عرفت إنه كان أحد العازفين في فرقة الراقصة وإنه توفي بعدها بأسبوع واحد. فكرت في حل قد يريحني فاخترت مقاس النعي الذي كان قد اختاره ومكانه ودفعت النقود ونعيت الاثنين مرة واحدة، ونُشر النعي ولم يفارقني الأسي!