مؤكد أن مناسبة نصر أكتوبر هذا العام استثنائية ليس فقط لأنها صادفت رقماً مميزاً (أربعين عاما) لكن الأهم أنها تأتي في وقت استطاعت فيه البلاد استرداد نفسها من الطريق الذي حاول الإخوان رسمه لها بلا اهتمام أن ما يريدون مشروع مكتوب عليه الفشل، كل من حاول تغيير أو طمس الهوية المصرية ارتد خائباً في النهاية وهم ليسوا إلا أحد هؤلاء. "اكتوبر" بهذا المعني، وبالمعاني الأخري التي تتضمن استعادة الأرض والكرامة، لا بد أن يكون في المقام الأول احتفالاً للشعب، هو الذي يصنعه علي طريقته وهواه مثلما يحتفل بالمناسبات الأخري، ويجد لكل منها الوسيلة الأنسب للفرح به وهكذا تنتقل بتلقائية إلي الأجيال التالية دون أن تجد فيه التزاماً ما. نصر اكتوبر تحول إلي مناسبة تحتفل فيها الدولة بنفسها، دون أن تدع آخر يشاركها، ربما لهذا بات الاحتفال عاما بعد الآخر يكتسب مسحة من العادية والجمود، بلا تجديد ولا ابتكار ولا قدرة علي خلق موضوعات جديدة تشد انتباه الجمهور، مثل الرجل العجوز الذي يحكي لأحفاده قصة وحيدة بلا حذف أو إضافة، بالتعبيرات والأحاسيس نفسها، القصة صادقة وهو أيضاً، ويستحق أن يفخر بما قدمه، لكن الأحفاد أيضاً من حقهم مشاركته إعادة اكتشاف ما فعله من خلال ذواتهم، من خلال معرفتهم ولغتهم المختلفة لما يعرفه. في أكتوبر من كل عام يخرج إلي المسرح فنانون في استعراض غنائي يصور الملحمة، وتعيد الجرائد نشر قصص عن الحرب، وفي كل ذلك لا شئ مختلف عن العام السابق، ولن يكون العام التالي بأحسن حظاً ذلك أن فلسفة الاحتفال نفسها أصبح من الواجب أن تتغير ليكتسب الأمر جدية ومهابة تليق بالذكري ولن يتحقق ذلك إلا إن تم فتح مستودع المعلومات المغلق أمام الأجيال التي لم تعش أجواء الحرب ولا تعرف عنها في أفضل الظروف سوي أنها عبور لأكبر مانع في العالم، بينما كثيرون لا يعرفون عن اليوم إلا أنه إجازة رسمية يتخللها أغاني وطنية! العام الماضي حاول مرسي وجماعته من ورائه تجريد "اكتوبر" من معناه، لم يكن جلوس القتلة في منصة الاحتفال بالنصر إلا محاولة وضيعة لمحو الحدث من الذاكرة عبر خلق صور كاذبة عنه، إعادة كتابة التاريخ بلا أسس هذه المرة واعتماداً علي تشويه الحقائق. القاتل يحتفل علي جثة قاتله في يوم ومكان أزهي انجازاته فماذا كان سيكون التالي؟! يعلمنا التاريخ أن الذاكرة الشعبية الوحيدة القادرة علي منع قصص البطولات من الاندثار، هذه الذاكرة لا يمكن محوها بقرار، كما أنه لا يمكن تثبيتها باحتفال وأوبريت وأغنية، لا يمكن الدخول إلي هذه الذاكرة بقرار حكومي، أو بالهدايا.. السبيل الوحيد إليها منحها الحقائق المتوافرة والقصص التي حدثت وترك المجال لإبداعها الخاص لتتولي هي إعادة حكيها بأساليبها. في كل المعارك والحروب الفاصلة في التاريخ الإنساني مئات القصص يتلقفها الكتاب والفنانون لصوغها، لتثبيت اللحظة علي زمنها فلا يضيع ويتحول إلي عنصر مهم في صياغة الشخصية الوطنية. وذلك هو الطريق والوسيلة الأهم للاحتفال بأكتوبر، ومنع العبث بتلك الذاكرة.