تزداد الأزمات في العالم العربي لطبيعة التشابك بين الثقافي والسياسي كم هو ممل الحديث عن الجوائز، فقد أصبح مفهوم الجوائز في العالم العربي ودورها وعواقبها مثار واحدة من أكبر الإشكاليات في المجال الثقافي والسياسي، وتحولت هي ذاتها إلي مساحة رئيسة للصراع مما حوٌل المفهوم بأكمله إلي أحد الأطراف الفاعلة ديناميكيا في تشكيل المجال وإعادة تشكيله طبقا لعلاقات القوي المتجددة والمتغيرة. أما الصراعات الشخصية الأصغر فقد باتت تشكل أيضا جزءا لا بأس به من هذه الصورة العامة، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن الحصول علي جائزة أدبية، خاصة إن كانت دولية (ومؤخرا بعض الجوائز العربية ذات القيمة المادية العالية)، أصبح مساويا لفعل الاعتراف الأدبي، بل أصبح يغني الكاتب أحيانا عن سعيه للحصول علي رأسمال رمزي في مجتمعه المحلي والدولي. وبشكل تلقائي يترجم عدم الحصول علي الجائزة التي تقدم لها الكاتب كفعل عدم اعتراف أدبي أو نزع للشرعية المفترضة. هكذا ينتفي مفهوم الجائزة القائم علي التنافس ليتحول الأمر برمته إلي صراع علي انتزاع اعتراف رمزي من أطراف لا تعد جزءا أصيلا من المجال الثقافي المحلي، بل هي أطراف أصبحت تتحكم في شكل البنية الداخلية. ومن شدة تأثير هذه الأطراف الخارجية أصبح العديد من الكُتاب علي وعي شديد بقوة الصراع، وهو ما يفسر إحجام الكثير منهم مؤخرا عن التقدم لهذه الجائزة أو تلك. وبالرغم من كل ذلك، يبقي الأمر أن حصول الكاتب علي جائزة مشهود لها بالمصداقية هو حجر الأساس لرأسمال الرمزي. فالجائزة ليست في قيمتها المادية بقدر ما تكمن قيمتها في معناها. فهناك جوائز ذات قيمة مادية عالية يعد رأسمالها الرمزي ضئيلا مقارنة بجوائز أخري قيمتها المادية أقل بكثير. إلا أن الحال الاقتصادي المتدهور لكُتاب العالم العربي يجعل كل الجوائز متساوية أيا كانت قيمتها الرمزية والاقتصادية. فهناك غياب الدخل الثابت من المطبوعات، وغياب دور الدولة في حماية المؤلفين وحقوقهم، وعدم توفيرها لرعاية صحية للكاتب، ناهيك عن غياب توفير ظروف الكتابة في بيوت خاصة كما يحدث في الغرب، كما يضطر الكاتب في معظم الأحوال إلي الإنفاق علي كتابه حين يتعلق الأمر بالطبع أو بالترويج أو حتي بالترجمة. يلجأ معظم الكتاب إلي الحصول علي عمل أو أكثر في مؤسسات لا تتوافق توجهاتها مع أفكار الكاتب ليجد نفسه في النهاية محاصرا في مأزق لا فكاك منه. لكن الأهم من القيمة المادية للجائزة هو ما توفره من رأسمال رمزي. وفي العالم العربي تعني الجائزة فيما تعنيه تلقي دعوات لحضور مؤتمرات أدبية أو ثقافية، ومؤخرا سياسية- وهو ما وفره الربيع العربي. علي الجانب الآخر، لا يهتم الغرب كثيرا بالنقد في العالم العربي لأنه لا يري احتياجا له، فهو قادر علي القيام بهذا الدور مع زيادة عدد المستعربين والمستشرقين ودارسي الأدب العربي. ويتحول الكاتب إلي »خبير« يمكنه الحديث عن كل مجريات المنطقة العربية من دين وسياسة ووضع النساء ومكانة الجسد والاستبداد والجماعات الفاشية المناهضة للقوي الثورية. والحقيقة أن المؤتمرات التي تُعقد في أوروبا وأمريكا بشكل عام في الفترة الأخيرة تحولت إلي ما يشبه خشبة المسرح التي تعرض كاتبا (أو كاتبة) عربيا ليشرح ما يحدث في بلاده لجمهور لا يعرف عنها شيئا سوي أنها معامل تجريب لأفكار ونماذج متخيلة. وبدون أن يشعر يتحول الكاتب عبر الجائزة إلي وسيط بين العالم العربي والغرب، فهو »المستنير« القادر علي توضيح ما عجزت الشعوب عن شرحه، وما أحجمت السلطات عن قوله. إنه نفس المنطق الامبريالي الذي تحدثت عنه باستفاضة الناقدة سبيفاك حين شرحت مفهوم »الوسيط«1 لكن الكاتب الذي تحقق له رأسمال الذي طالما حلم به لا يدرك ذلك، فهو يسعي إلي »العالمية« بكل قواه، ويلبي دعوات »الجمهورية العالمية للآداب« ظنا منه أن عمله قد اندرج في الأعمال الرئيسة في الغرب، والحقيقة أنه قد منحه شرعية أدبية- نسبيا- من وجهة نظر المركز الأدبي. لكن الأهم، أن هذا انوع من الجوائز الدولية يمنح الشخص الحق في الكلام بالنيابة عن شعوب كاملة، لأنه الأفهم والأعلم والأكثر مصداقية من وجهة نظر دوائر أكاديمية تسجل رسائل دكتوراة في معني القبلة (بكسر القاف) في الصلاة وتري أن الخطاب النسوي الذي طرحته نساء حزب الحرية والعدالة قد حقق نقلة نوعية في خطاب الجندر (حدث بالفعل في مؤتمر حضرته مؤخرا في انجلترا)! وقد تناولت باسكال كازانوفا، الباحثة الفرنسية، هذا الموضوع تفصيلا في كتابها الشهير »الجمهورية العالمية للآداب« فتقول »تعد الجوائز الأدبية الشكل الأقل أدبية للإقرار الأدبي: ويناط بها عادة التعريف بأحكام المحافل الدولية خارج حدود جمهورية الآداب، فهي- إذا- الجزء البارز والأكثر ظهورا في آليات الإقرار ... ولذلك فإن أكبر إقرار أدبي يحدد العالم الأدبي، وبالتالي يُعرفه، هو جائزة نوبل2 نعم جائزة نوبل- بفروعها المختلفة- التي منحت، علي سبيل المثال، شرعية للسيدة توكل كرمان لتتحدث عن الشرعية! لا بأس فنفس الجائزة مُنحت لنتنياهو وأوباما والبرادعي وغيرهم، لكن الشرعية الممنوحة سمحت للسيدة توكل كرمان أن تُشبه محمد مرسي بنيلسون مانديلا. وقد كرس الأخير حياته للنضال من أجل القضاء علي التمييز العنصري، وقبع في السجن 28 عاما- مناهضا بذلك منظومة عالمية كانت تُكرس للفصل العنصري- ثم خرج وهو مُحمل بروح التسامح التي جعلته قادرا علي إجراء المصالحة الوطنية. يا للعجب، أين تقع وجوه الشبه إذا؟ إنها شرعية الجوائز التي دفعت مجلة فورين بوليسي الشهيرة إلي نشر هذا المقال كمساهمة بسيطة في محاولة نقل الشعب المصري إلي الديمقراطية. لكن ألا تستدعي هذه الجائزة أن يكون الحاصل عليها علي دراية ووعي كامل بتعقيد وتشابك علاقات القوي علي المستوي المحلي والدولي لكي لا يتعرض إلي ضرورة مواجهة مواقف تدمر مصداقيته تماما؟ لا يبدو أن الأمر كذلك في ظل لعبة إعلامية تديرها مؤسسات غربية شرسة تسعي للحفاظ علي ماء وجهها ومصالحها. ربما يكون أقدم أزمة حدثت في مصر حول الجوائز كانت عام 77 عندما قبل صبري موسي جائزة بيجاسوس التي فازت بها روايته »فساد الأمكنة« (والتي فازت في جوائز الدولة قبل ذلك). وسبب الأزمة هو أن شركة موبيل الدولية للبترول هي التي تقدم الجائزة من أجل نقل الأعمال الأدبية المتميزة التي تنشر في أنحاء العالم إلي اللغة الانجليزية. فكان التساؤل المطروح هو: »ما علاقة البترول بالأدب؟ (يبدو السؤال عديم الفائدة في الزمن الحاضر). للإجابة علي هذا السؤال وما أثاره من لغط آنذاك في الوسط الثقافي كتب المؤلف مقالا عام 80 نشره في مجلة صباح الخير وعنوانه »أنا والحصان المجنح...؟« (الحصان المجنح هو رمز شركة موبيل) يشرح فيه ملابسات الجائزة ويحاول »التخلص من إحساس بالحرج الغامض«. جرت مياه كثيرة في النهر منذ أن كتب صبري موسي ذاك المقال ليرفع الحرج عن نفسه في قبول جائزة بيجاسوس، وأصبح للعديد من العوامل الخارجية تأثير علي هذه الجوائز منها: رأس المال (الرمزي والاقتصادي) والسياسي والشخصي. ولم يعد يمر عام دون وقوع أزمة تخص احدي الجوائز، دون أن يتم الإعلان عن السبب الحقيقي للأزمة. تزداد الأزمات في العالم العربي لطبيعة التشابك بين الثقافي والسياسي. فقد كان ولا يزال للسياسي في العالم العربي تأثير علي مسار وسمعة الجوائز الثقافية. وأشهر تلك الأزمات المتعلقة بالسياسي هو قيام الروائي المصري صنع الله إبراهيم برفض جائزة الرواية الممنوحة من المجلس الأعلي للثقافة ورفض الأسباني خوان كوتسيلو الترشح لنيل جائزة القذافي. »في رفضه للجائزة قال صنع الله إبراهيم: »في ظل هذا الواقع لا يستطيع الكاتب أن يغمض عينيه أو يصمت«. لكن يبدو أن الجوائز الدولية تدفع الغرب إلي إغماض عينيه طويلا معتمدا علي سلطة منحته إمكانية إضفاء شرعية زائفة في معظم الأحوال تدفع جماعات كاملة إلي التوسل إليه للبقاء في السلطة. الغرب لا يفتح عينيه إلا عندما يمسه الأمر بشكل مباشر، وهو ما سيحدث قريبا.