بدأ الأمر ببيان صاغه عدد من المثقفين بعنوان »الآن الآن وليس غداً، من أجل استكمال الثورة«. البيان أثار الكثير من الأرواح الشريرة بين المثقفين وبعضهم البعض. تحدث البيان عن رفضه لإقصاء فصيل سياسي بعينه من الحياة السياسية، والمعني بالطبع هو الإخوان المسلمين، أو بشكل أكثر عمومية، التيار الإسلامي بأكمله، كما تحدث عن عدم إمكانية كتابة دستور وسط هذه الأجواء المشحونة، وبالتالي فقد فُهم إنه مع الانتخابات أولاً. وهو ما أثار ضده الكثيرون. حملة الهجوم علي البيان كانت موحدة تقريباً، في الغالب لم تتم مناقشته بهدوء، وإنما عبر اتهامات تتصل بتاريخ الموقعين في دعم الإسلام السياسي أمام الدولة الأمنية، حيث الكثير ممن وقعوا البيان هم من الأكاديميين الذين دعموا المرشح الإسلامي عبد المنعم أبو الفتوح في المرحلة الأولي من انتخابات الرئاسة، بل ودعم بعضهم محمد مرسي رئيساً للجمهورية أمام أحمد شفيق، الاتهامات ضدهم تراوحت بين اتهامين »الموالاة للإسلاميين« و»تبني حس إنساني حكيم ومتعال رفيع لا يليق بوقت الحروب«. شحنة الغضب التي تم ضخها عبر هذين الاتهامين كانت هائلة. ولكن اللافت هو عدد من الردود الموضوعية التي لاقاها البيان، المؤرخ شريف يونس يكتب مثلا عن حديث الموقعين باسم الجموع، وذلك استنادا لجملة وردت بالبيان وهي أن المطالب الاجتماعية والاقتصادية كانت هي المحرك الرئيس لغضب جموع الشعب في 30 يونيو 2013، وهي الجملة التي تخطئ قراءة مشهد 30 يونيو بشدة، حيث خرجت الجموع بوضوح ضد حكم الإخوان المسلمين. البيان أيضاً وقع عليه الكثيرون، ولكن في خضم التوقيعات عليه فقد تم ذكر الأسماء الأبرز، مثل الباحثين دينا الخواجة وخالد فهمي والحقوقيين مثل حسام بهجت والسيناريست بلال فضل والمخرجة نادية كامل. ثم تمت إضافة جملة »وآخرين كثر«، أي أنه بدا وكأنه يحتمي بالسلطة الرمزية للموقعين عليه، سواء سلطتهم في العمل الأكاديمي أو في منظمات المجتمع المدني. أما الباحث عمرو عبد الرحمن فيكتب عن موضوع الإقصاء مسترجعا من التاريخ أنه لا يمكن محاربة فصيل فاشي عبر الآليات الديمقراطية، وأنه لابد من كسر أسلحته أولاً ثم تبدأ بعد ذلك إجراءات دمجه في الحياة الديمقراطية. الاستقطاب شديد الحدة الآن، وهو لا يفرق بين الدين والطبقة والثقافة فعلياً. علي هامش هذا الاستقطاب هناك عدة ملاحظات يمكننا استنتاجها من معركة البيان. 1- نحن، المثقفين، لسنا واحداً، هناك منا من يميل للتصالح مع الإخوان ومن يميل لإبعادهم عن الحياة العامة. هذا هو اكتشاف العام الماضي، بعد المعركة حول ترشيح عبد المنعم أبو الفتوح رئيساً للجمهورية، ثم توالت مع المفاضلة بين محمد مرسي وأحمد شفيق لمنصب رئيس الجمهورية. 2- لقد انهارت الرموز حقاً، ظل هدف الهجوم في المعركة الأولي، معركة مرسي أمام شفيق، هو مثقفين مثل بلال فضل وعلاء الأسواني والمخرج عمرو سلامة، ممن دعموا، كما أسلف، الإسلام السياسي في مواجهة الدولة الأمنية، أما الهدف في هذه المعركة فقد أصبح مثقفي الجامعة الأمريكية، وهو من كانت تحميهم سلطتهم الرمزية والعلمية من الانتقاد بوضوح. لم يعد أحد آمناً من الهجوم عليه، وهذا شيء إيجابي تماماً. 3- أصبح شائعاً جدا في مجتمعنا، مجتمع المثقفين والمهتمين بالشأن السياسي، اللجوء لآلية التخوين في الرد من جانب مهاجمي البيان، والاحتماء ب بالمظلومية، من جانب المدافعين عن البيان: بمعني »نحن غير قادرين علي النقاش وسط هذا الجو المشحون ووسط جميع اتهامات التخوين هذه«. النقاشات الجادة حول البيان كانت قليلة للغاية. اللحظة الآن شعبوية للغاية، ربما يكون سببها أن نقاشات المثقفين المغلقة حول السياسة قد خرجت للعلن بعد الثورة. كان المثقفون طول الوقت متورطين في السياسة، والآن تورط الشعب، فتم صبغ النقاشات السياسية بالشعبوية. بالمناسبة، هذه الشعبوية لها كلمة أخري، الديمقراطية. ربما يكون هذا أفضل ما حدث بعد ثورة 25 يناير، كون السياسة قد أصبحت ملكاً للجماهير، وأصبح خطاب المثقفين خطاباً جماهيرياً بالتالي، الديمقراطية لها أنياب، ومعني الديمقراطية هو التورط في »ديماجوجية« الشعوب، الديمقراطية نقيض الحكمة. 4- نحن في لحظة فارقة ومختلفة عن كل التاريخ الذي نعرفه، وهي لحظة تصبح فيها مواجهة الإسلام السياسي قادمة من أسفل، من عمق المجتمع، وهي لحظة لم يتعود المثقفون علي تحليلها وبناء مواقفهم الأخلاقية علي أساسها. 5- انطلاقاً من النقطة الأخيرة، هذه واحدة من مشاكل البيان: من يخاطب، إذا كان العنف ضد الإخوان قادماً من أسفل، فهل توجه كلامك للجماهير الهائجة ضد الإخوان؟ البيانات لا توجه للجماهير. هذا غير منطقي، هل توجه كلامك للسلطة؟ إذن ما آليات المصالحة التي تطرحها؟ مشكلة البيان إنه يتحدث عن المصالحة كحكمة أخلاقية، وبالتالي فقد تعالي علي السياسي والإجرائي تماماً، وتورط في الحكم الأخلاقي. البيان أصبح مثل فيروز وهي تغني لجميع الفصائل المتناحرة في الحرب الأهلية اللبنانية تدعوهم لنبذ العنف، تقول كلاماً صحيحاً ولكنها لا تفكر في الآليات، وبالتالي فهي، مع كل سلطتها الرمزية، غير قادرة علي إنهاء الحرب. ولكن في نفس الوقت فهذا الكلام الصحيح الذي يقوله البيان، لم يكن يستحق مثل هذا الهجوم الكاسح، فلا أحد من المهاجمين يعبر مثلاً عن رغبته في »قتل الإخوان المسلمين واحداً واحداً في الشوارع«، وإنما يعي الجميع أن الأفضل بالنسبة لأي مجتمع هو دمج كل فصائله سوياً، كما أن صائغي البيان، في المقابل، لم يعبروا عن رغبتهم في إدماج أعضاء مكتب الإرشاد في الحياة السياسية، وبالتالي فالخلاف حول »لا للإقصاء«، ليس مفهوماً طالما أنه لم يوضع تعريف محدد لما هو الإقصاء وما هو الدمج، ولا من المقصود بكليهما، وهو التعريف الذي لم يتقدم به البيان. في النهاية، فالبيان لم يعبر عن شيء، إلا حكمة أخلاقية متجردة، ولكن المعركة حوله تكشف عن كثير من الانشقاقات التي بين جموع المثقفين والنشطاء والحقوقيين وبعضهم البعض. نحن لسنا واحداً، وربما لم نكن واحداً أبداً، وما نفعله هو أننا فقط نعيد اكتشاف هذا في كل حرب نخوضها.