طالعه ميدان السيدة زينب بزحام المولد: السرادقات والخيام وفرق الصوفية والأعلام والرايات والأضواء الملونة والطبول والمرقعات والأناشيد والأدعية والابتهالات والتوسلات والأناشيد والجوقات والأجساد المتلاصقة. دفعه الزحام - في البداية - إلي شوارع جانبية وحارات، التقط أسماءها دون أن يدرك مدي قربها، أو ابتعادها، من مقام رئيسة الديوان. مضي - بقوة التدافع - إلي نهاية الطريق، دار، دخل في زحام جديد، دفعه إلي شوارع وحارات أخري. منّي النفس - لرؤية أعلام الشاذلية فوق سرادق علي جانب الشارع - بأن يعينه شيخ الطريقة علي ما قدم من أجله . أشار الشيخ لينهي كلامه. قلص الشيخ ملامحه بما لم يعهده فيه: - يا محفوظ.. ضاقت بك الإسكندرية فتبعتني إلي القاهرة؟! لجأ محفوظ إلي أبو العباس سلطان الإسكندرية وأوليائها مرات كثيرة: الصحن الفسيح، المشكاة الهائلة المعلقة في الوسط، الأعمدة الرخامية الهائلة، المقرنصات والزخارف والنقوش في الأسقف والأبواب والنوافذ، العقود المحملة بالنقوش، مقام السلطان إلي جانب الباب الجانبي، النسوة يطفن به، يكنسن حوله، يستندن إلي مقصورته النحاسية، يقبلنها، يغرفن بأيديهن من الهواء المحيط، يضعنه داخل الملاءات. همس بما ينغص عليه حياته، تطلعه إلي النصفة والمدد. لما طال انتظاره، دله مريد في الشاذلية علي رئيسة الديوان، السيدة الطاهرة - منذ وقفتها أمام يزيد بن معاوية - هي المدافعة عن المظلومين. كتب له العرضحالجي أمام المحكمة الكلية رسالة يشرح فيها مظلمته, وما جري له حتي لجأ إلي الديوان أخيراً. الديوان يعقد كل خميس، ترأسه أم العواجز، يحضره البدوي والشافعي والدسوقي والرفاعي, يناقش مشكلات المسلمين واستغاثاته ، يقضي بالنصفة والمدد, لكل ولي في الإسكندرية مريدوه، يؤمنون ببركاته وأفعاله الحميدة، يضعون رسائلهم في صندوق النذور، أو علي أرضية المقصورة، يلتمسون النصفة والمساندة. للدرجات غاية تنتهي إليها، ربما لجأ الأقطاب إلي قضاة المحكمة فيما غمض عنهم فهمه وتفسيره، يستوضحون معني، أو إشارة، أو دلالة، يطالع الناس من الشر ما لا يملكون رده. المريد هو البداية، قضاة الديوان خاتمة الدرجات الروحية، قبلها درجات كثيرة، لم يتيقن من أن المريد هو موضعه في الطريقة الشاذلية، المريدون درجات، أولها المؤمنين بمكاشفات أولياء الله وبركاتهم، يلوذون بالأضرحة والمقامات، يترددون علي الجوامع والمساجد والزوايا، يشاركون في الموالد والجلوات وحلقات الذكر، ترقي الدرجات بمعرفة الأسرار والرموز والدلالات والإيحاءات والإشارات, لم يزد ما يفعله عن المشاركة في الحضرة، وترديد إنشادها وتسبيحاتها وابتهالاتها، والسير في مواكب المولد وجلوة الخليفة، ربما ترقي من مقام إلي آخر: التوبة، الخوف، الرجاء، الصالحين المريدين، الغاية التي يتمناها. ترقي الدرجات حتي تبلغ مرتبة الولي، قطب الأقطاب ، يخص الله بها من وهبهم الله قدرة علي الشفاعة، والسعي لصالح الناس، حتي لو غابوا داخل قبورهم، محكمة الديوان هي الدرجة الأعلي في القطبية الصوفية، لا تماثلها، ولا تقترب منها، درجة أخري، لكل رئيس من يفوقه مكانة، وأقطاب المحكمة الجوانية يحظون بالمكانة الأعلي، وهبهم الله أسراراً لا حد لها، اطلعوا علي خزائن الغيب، امتلكوا ما تترامي آفاقه من الخبرات الروحية، تأهلوا لقضاء حاجات الناس في الحضرة البرزخية. لا شأن للمحكمة بزمان أو مكان، نورها يبلغ آخر بلاد المسلمين، يغيث القضاة الموقرون كل من ينطق بالشهادتين، بصرف النظر عن مكان عيشه، ولا إن كانت الاستغاثة في ليل أو نهار. روي عن قضاة الديوان ما يرقي إلي الخوارق والمعجزات . تمني الصياد قرني عبد الوهاب أن يسحب الطراحة يوماً، يجد بداخلها المصباح السحري، يدلكه، يعطي أوامره، يحقق له جني المصباح ما يتمناه، يريحه من التعب، يزيح الظلم والأفعال القاسية. كثر نزول الصياد مياه الأنفوشي، ينتظر، فلا يجد المصباح، ولا يجد من الصيد ما يبيعه، أو يطعم به عياله، دعا رئيسة الديوان والأولياء الأربعة بكلمات هامسة، طيرتها البركة إلي حيث تعقد محكمة الباطن جلساتها, ميزت المحكمة استغاثة الصياد, ألقي طراحته - ذات عصر - وهو في وضع المتشكك، وربما اليائس، صعدت بصرة صغيرة، وجد فيها من المال والنفائس ما أغناه طول حياته. استمرت النوات أيام الشتاء، اتصلت كل واحدة بالأخري, صار النزول إلي البحر خطراً ماثلاً، لزم الصيادون البيوت، طالت جلساتهم علي المقاهي، لاذوا - يلتمسون الشفاعة والفرج - بحضرة المرسي أبو العباس, ذات صباح, يذكرونه, ملايين الأسماك علي رمال الأنفوشي، حية ما تزال، ملأ منها الصيادون وأبناء السيالة ورأس التين مئات القفف والأجولة والأكياس, تبدلت قسوة أيامهم بقضاء محكمة الديوان. غاظ القضاة ما حملته العريضة عن ظلم شيخ الطريقة لمريديه، يستأثر لنفسه بما يهبه الطريقة الصالحون وفاعلو الخير وطالبو القرب من الذات الإلهية. ما كاد يصفق بيديه، إشارة بداية الذكر حتي انتتر في موضعه، وعلت صرخاته المستغيثة، اختطفته قوة لم يروها، قذفت به في الفراغ، شحب صراخه، ثم تلاشي تماماً. تكرر حصول مفتش الصحة علي إتاوات من الباعة السريحة في شارع الميدان والشوارع الجانبية، يحرر محاضر المخالفة، فيواجهون الغرامة أو الحبس, خلا - ليلة - إلي نفسه، بدأ في عد ما تقاضاه من الباعة, احترقت النقود في يده، قذفها، وتراجع فزعاً، لكن النيران ظلت مشتعلة بثيابه وجسده، حتي صار كومة من الرماد. شكا سيدي محمد شرف صاحب الضريح الصغير في شارع رأس التين من التصرفات العابثة علي ضريحه. دنا شاب وفتاة بقبلاتهما من شباك الضريح، فأصابهما ما يشبه الصاعقة، ماتا لتوهما. لم يعد الناس - من يومها - يقفون أمام الضريح إلا للتبرك وقراءة الفاتحة. تعددت بركات الديوان، محكمة الباطن المقدسة، بما يصعب حصره، صيادون اختطفهم البحر، عادوا إلي ذويهم بعد أن قهرهم الانتظار، مرضي وجدوا الشفاء من أمراض قاسية، رجال استردوا ذكورتهم، بعد أن دس السحر في قراميط، ألقيت داخل البحر، حتي سيدي المرسي، سلطان الإسكندرية، وقطبها الأعظم، أشفق أن يعاقب مريد في الطريقة الشاذلية، سحب قايش العسكري، أحاط به خصره، ورقص في صحن الجامع، بما يؤذي صاحب المقام، اعتاد الناس رؤيته بالقميص الخيش، غائباً عن نفسه في الموالد الأربعين لأولياء الإسكندرية، يتمتم بما لا يفهمه الناس، ولا يكلم أحداً. زار محفوظ معارفه في شوارع بحري، وفي المساجد، وداخل المقامات والأضرحة، وفي السرادقات وخيام المولد وحلقات الذكر والإنشاد، يعرض حمل شكاوي واستغاثات من ناس في الطريقة، محكمة الديوان هي الجهة العليا لتدارس مشكلات المسلمين، والقضاء فيها، بأحكام ملزمة. طلبت منه صابرين بائعة الدوم أول شارع الميدان أن يروي عن لسانها ما تقوله، لا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً، الاجتراء علي أولياء الله بما لا يجوز يأتي بعكس المراد، هي تطلب من أم العواجز أن تأمر مريديها بالتقليب في الشكاوي والمذكرات واستغاثات الغلابة والمظلومين. كانت قد دست الورقة في صندوق نذور سيدي ياقوت العرش، تعرف أنه قطب عظيم، لكنه في المكانة الأقل لما عليه بنت فاطمة الزهراء ، هي التي أشارت - في هاتف جاءها في صحو لا في منام - أن تضع شكواها في صندوق نذور ياقوت العرش، من بين صناديق النذور لأضرحة أولياء الإسكندرية ومقاماتهم، أشار الهاتف في صوت حي - هو ، في الأغلب ، لسيدة ، لامرأة : هل هي السيدة الرئيسة نفسها ؟ - ضعي رسالتك في صندوق نذور ياقوت العرش. فضت ما بنفسها - صباح اليوم التالي - للعرضحالجي أمام المحكمة الكلية، روت الحكاية من بداياتها، حددت ما تريده - كما نصح الرجل - في نهاية الرسالة، تنال النصفة من محكمة الباطن، بشفاعة ياقوت العرش، كأمر السيدة زينب، وليس بوازع من نفسها. حين تأخر الرد بما يفيد القضاء في الرسالة، أرجعت الأمر إلي زحام الأوراق في حضرة الديوان، يطيل الأولياء وقت القراءة، يستغرقهم الفحص والمعاينة والتأمل، يقضون - بعد التشاور - بالحكم ذي الصبغة القدسية، فهو يصدر عن أولياء كبار، يرفضون الظلم إعلاء لكرامة الدين. وجدت صابرين في عرضه ما يشجعها علي تذكير محكمة الديوان بما قد يغيب في كومات الرسائل والعرائض، هي مجرد ورقة صغيرة باسمها: صابرين بنت نفيسة. تلمحها العين الطاهرة، تقفز الورقة - بالقدرة القدسية - إلي أعلي الكومات الهائلة، تقرأها أم هاشم بصفة مستعجلة، تقضي بما تراه، ربما حتي دون أن تعرض الأمر علي أعضاء الديوان، الاستغاثة العاجلة لا تحتاج إلي مداولات قد تعيق وصول النصفة لطالبيها. حمّله إبراهيم سلامة، الترزي العربي بالموازيني، دجاجة مشوية ، يحملها - صباح يوم سفره - إلي القاهرة, نذرها إبراهيم لمقام سادة الديوان، إن فكوا ضيقه، وخلصوه من الكربة التي طالت معاناته لها. لم يسعفه أصحاب المقامات والأضرحة في بحري، ولا أسعفه حتي السحرة والمنجمون وضاربو الرمل والودع وقارئو الكف والفنجان. أعاره الرجل حقيبة بلاستيك، يضع فيها ما يحمله من رسائل، يلقيها علي كتفه، تخلي الحقيبة الجلدية في يده موضعاً للنذر. شكا مريدو حضرة الذكر علي رصيف سيدي البوصيري من التعب، أنهك أجسادهم في اهتزاز الرءوس والأيدي والأجساد، وارتفاع الأصوات بالأدعية والابتهالات والتسبيح، يتطلعون إلي النصفة التي لا تجئ، ربما - لو أنه شرح الحال أمام مقام السيدة الشريفة في مولدها - تشفق علي ما يعانون، تأمر المحكمة العادلة بتبديل الأحوال، تنفذ الأشعة الغائبة من غيوم سوداء، متكاثفة، لا تنتهي. وضع محفوظ المشكلة في رأسه جيداً، أضافها إلي ما يعتزم قوله أمام المقام الشريف من مطالب الناس، وإلي ما يحمله من رسائل وعرائض ونذور، يستروح النسائم في رياض القرب والمكاشفة . تردد علي المقاهي وورش القزق وحلقة السمك، جالس المستندين إلي الأعمدة في صحن أبو العباس، والقعود لصق الجدران، خارج الجامع. تسلطت الفكرة علي ذهنه، استحوذت عليه تماماً، مضي - مسكوناً بالزيارة - إلي ساحة المولد، يدفعه الشوق، ورفع شكايات الناس ومطالبهم إلي القضاة العظام: السيدة الرئيسة، وأولياء الله: الشافعي والبدوي والرفاعي والجيلاني, يقرءونها، يتدارسونها، يتشاورون بروح العدل والإنصاف، يقضون بالصواب، وما فيه صالح الناس. عرف أنه وصل الميدان، بعد أن لمح المئذنة العالية والأضواء الملونة المتدلية عليها: السيدة زينب! كرر الاسم، وهو يضع كل ما تبقي من قوته في اندفاعة جسده إلي قلب الميدان. وضع يديه علي الحقيبتين يمنع ضياعهما، لكن التدافع قذف بهما بعيداً، ومزق ملابسه، امتصه الزحام الخانق، أجساد متلاصقة، متلاحمة، غابت ملامحها، وإن تناثر العرق، وعلت الأصوات بما يشبه الصراخ. ترك التدافع يمضي به إلي مفترق طرق، قل فيه الزحام. التفت - بعينين غائمتين - إلي الرءوس المتلاصقة، وإلي المارة والقعود حوله، لا يبدو أنهم قد رأوا في الأسمال المتبقية علي جسده ما يثير انتباههم. أعطي كل شيء ظهره، واتجه إلي الشارع الذي قل فيه المارة، لم يستطع أن يتحكم في مشاعره، ولا أن يسيطر عليها، تملكه من الانفعال ما لم يعهده في نفسه، نسي ما قدم من أجله: عرائض الناس ومحكمة الديوان ومطالب النصفة والمدد، ترامي صدي صراخه - بآخر ما عنده - من مناطق بعيدة: يا ألله! يا ألله!