في نقد مطول كتبته عن »جدل الإنسان المصري مع ثوراته عبر قرنين من الزمان« العدد الخامس »دورية محفوظ« ديسمبر 2012 في رواية »حديث الصباح والمساء« تناولت فيه الفروق بين أدب المقاومة، وأدب التحريض، وبين فعل الإبداع ثورة في ذاته، وذكرت كيف وصلني دائما أن أدب محفوظ يتميز بحيوية دافقة ممتدة بأصالة عميقة، عبر ذراعَيْ الإيقاع الحيوي أصل الحياة، ومن ثَمَّ كنت - ومازلت- أري كيف أن موقفه مما هو ثورة أعمق وأشمل كثيرا مما يسمي أدب المقاومة، الإبداع الحقيقي ليس إلا ثورة كاملة، فهو عملية متكاملة تشمل ما هو إقدام فتفكيك يصل أحيانا إلي حد التحطيم الذي تلحقه اللملمة فإعادة التشكيل فالتخليق، وأهم مثال يوضح ذلك هو عملية إبداع الشعر الحقيقي في تعامله مع اللغة، وهذا ينطبق علي أي نوع من الإبداع الاختراق الخلاق، الابداع الحقيقي إذن هو ثورة كاملة كما أن الثورة المتكاملة هي إبداع جماعي، هكذا نتعلم من أي أدب أصيل ومن أدب محفوظ خاصة. ثم إني أكتشفت لاحقا - الآن- من مراجعة نقدي السابق »لأصداء السيرة« (أصداء الأصداء، المجلس الأعلي للثقافة، 2006)، أن ذكر الثورة جاء في أول فقرتين في الأصداء بشكل مختلف متكامل، مما يحتاج إلي إشارة جديدة. الفقرة الأولي: - دعاء: دعوت للثورة،. وأنا دون السابعة ذهبت ذات صباح إلي مدرستي الأولية محروسا بالخادمة، سرت كمن يساق إلي سجن، بيدي كراسة وفي عيني كآبة وفي قلبي حنين للفوضي، والهواء البارد يلسع ساقي شبه العاريتين تحت بنطلوني القصير.. وجدنا المدرسة مغلقة والفراش يقول بصوت جهير: بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا، غمرتني موجة من الفرح طارت بي إلي شاطيء السعادة ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلي الأبد! جاء في نقدي لهذه الفقرة: تبدأ الأصداء بطفل قبل السابعة، يحمل بذور الثورة الفطرية الجميلة، التي أسماها زحنين للفوضيس تواكبها كآبة نتيجة للإحاطة المُحْكمة ما بين خادمة تحرسه، وقهر يسوقه إلي سجن النظام »المدرسة« فتنقذه المظاهرات من هذا وذاك، لتطير به إلي »شاطيء السعادة« داعيا للثورة بطول البقاء، (وكأن الثورة ارتبطت عنده طفلا بالمظاهرات وتوقف الدراسة). لكن في الفقرة التالية مباشرة (رقم 2) بعنوان: زرثاءس يأتي ذكر الثورة بشكل آخر تماما، فبعد مفاجأة زيارة الموت لبيتهم - وهو بعد طفل- ليخطف منه جدته: إذا به ينسحب بعيدا عن أنفاسه التي تتردد في جميع الحجرات ليجمع نفسه، ...فلذت بحجرتي لأنعم بدقيقة من الوحدة والهدوء ... وإذا بالباب يفتح وتدخل الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء، وهمست بحنان : لا تبق وحدك، واندلعت في باطني ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنون وقبضت علي يدها وجذبتها إلي صدري بكل ما يموج فيه من حزن وخوف... الثورة هنا غير الثورة »المظاهرات« التي أعفته من المدرسة ودعا لها كما ورد في الفقرة الأولي، هذه الثورة الأخري التي اندلعت زفي باطنهس كانت حركة حيوية داخلية، آثارها فقد جدته، فكانت »مباغتة، متسمة بالعنف، متعطشه للجنون«. هذا طفل وذاك هو نفس الطفل ربما في نفس السن، انظر كيف يحضران في وعي المبدع بمعانٍ متكاملة تعطي للفظ »الثورة« حقه من النبض، والحيوية، والعمق، والخطر، والفرحة، والحنين للفوضي، وهي هي المعاني التي قد تصف المرحلة الحالية من الإبداع الجماعي المسمي»الثورة«. من يا تري من الثوار أو الحكام يمكن أن يمسك بعصا المايستروا ليبدع لنا لحن»الثورة البعث« إذ يبادر بتشكيل حياتنا الجديدة إبداعا من هذا الوعي الثوري الفائق المتفجر؟