الثورة بين «الدعاء» و«الرثاء»! مقدمة قبل النص والنقد: لا أعلم تحديدا متى كتب شيخنا محفوظ هذه الأصداء، لكننى سمعت أن لذلك ارتباطا ما بظروف العملية الجراحية التى أجراها فى لندن، أما النقد الذى كتبته عنه فقد نشر أولا بأول فى مجلة «الإنسان والتطور» ابتداء من عدد أبريل 1994، ثم نشره المجلس الأعلى للثقافة مجتمعا فى عام 2006، بعنوان «أصداء الأصداء». الأرجح أنه كتبها من عشرين عاما. حين رجعت إليها اليوم، خيل إلىّ أنها كتبت الآن، مثل كل الأعمال الخالدة، وعلى رأسها أعمال محفوظ. منذ 25 يناير، والحديث لا ينقطع عن الثورة والثوار، استعملت كلمة «الثورة» فى كل الاتجاهات لتخدم كل الأغراض، فهل يا ترى نتأمل نص محفوظ، ثم قراءته، لنتبين أين نحن ونتعلم المزيد؟ الفقرة رقم (1): دعاء (1994) دعوت للثورة، وأنا دون السابعة ذهبت ذات صباح إلى مدرستى الأولية محروسا بالخادمة، سرت كمن يساق إلى سجن، بيدى كراسة وفى عينى كآبة وفى قلبى حنين للفوضى، والهواء البارد يلسع ساقىّ شبه العاريتين تحت بنطلونى القصير.. وجدنا المدرسة مغلقة والفرّاش يقول بصوت جهير: بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا، غمرتنى موجة من الفرح طارت بى إلى شاطئ السعادة، ومن صميم قلبى دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد! القراءة: (1997) تبدأ الأصداء بطفل قبل السابعة، يحمل بذور الثورة الفطرية الجميلة، التى أسماها «حنين للفوضى»، تواكبها كآبة، نتيجة للإحاطة المحكمة ما بين خادمة تحرسه، وقهر يسوقه إلى سجن النظام «المدرسة»، فتنقذه المظاهرات من هذا وذاك، لتطير به إلى «شاطئ السعادة»، داعيا للثورة بطول البقاء. هذه البداية تغرى القارئ أننا أمام «سيرة ذاتية» حقيقية، لكننا نلاحظ منذ الوهلة الأولى العلاقة بين حنين الطفل للفوضى ومظاهرات الثورة فى الخارج، فنلمس ذلك الخيط السحرى بين الداخل والخارج، والذى يؤكد أن هذه الأصداء إذ تتردد، لا تفصل أصلا بين واقع الذات والواقع الملموس خارجها، بل والواقع المتجدد والمتولد من خلال حوارهما. فاعتقدت أن الأصداء إنما سميت كذلك، أو هى كذلك، لأنها تشير إلى ترجيع صدى وأصداء صوت الذكريات الحية بين طبقات الوعى (الواقع) الداخلى، وتضاريس الوعى (الواقع) الخارجى، متجاوزة سجن الزمن التتابعى، ناهيك بهذا الحدس الذى يربط الثورة بالفوضى بالفرحة الطفلية، الأمر الذى يغيب عن أغلب الناس. الفقرة رقم (2): رثاء (1994) كانت أول زيارة للموت عندنا لدى وفاة جدتى، كان الموت ما زال جديدا، لا عهد لى به إلا عابرا فى الطريق، وكنت أعلم بالمأثور من الكلام أنه حتم لا مفر منه، أما عن شعورى الحقيقى، فكان يراه بعيدا بعد السماء عن الأرض، هكذا انتزعنى النحيب من طمأنينتى، فأدركت أنه تسلل فى غفلة منا إلى تلك الحجرة التى حكت لى أجمل الحكايات. ورأيتنى صغيرا كما رأيته عملاقا، وترددت أنفاسه فى جميع الحجرات، فكل شخص نذكره وكل شخص تحدث عنه بما قسم. وضقت بالمطاردة فلذت بحجرتى لأنعم بدقيقة من الوحدة والهدوء، وإذا بالباب يفتح، وتدخل الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء، وهمست بحنان: لا تبق وحدك. واندلعت فى باطنى ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنون، وقبضت على يدها وجذبتها إلى صدرى بكل ما يموج فيه من حزن وخوف. القراءة: (1997) فجأة، نجد أنفسنا فى مواجهة الموت «موت الجدة»، فننتبه -أيضا من البداية- إلى دلالات نقلات الذاكرة الخاصة، من طفل طائر إلى شاطئ السعادة، إلى جدة تموت، والموت طوال الأصداء كان حاضرا بحيوية بادية، حيث تنفجر منه الحياة فى معظم الأحيان، كما علمنا محفوظ فى الحرافيش أساسا. محفوظ يعامل الموت هنا باعتباره كائنا حيا «لا عهد له به إلا عابرا فى الطريق»، ثم يحكى عن الموت إذ تسلل، ثم وهو يصير «عملاقا له أنفاس تتردد فى كل الحجرات»، وفجأة ينقلب الموت شبحا يطارد الطفل شخصيا، فيجرى أمامه ليلتقى بالحياة، «الجميلة – ذات الضفيرة»، هذه الوصلة بين الموت والحياة هى لعبة نجيب محفوظ المفضلة. يتبين هنا -أيضا- الخيط الرفيع الذى لمحناه منذ البداية، والذى يربط بين الداخل والخارج، فإذا كان الدعاء للثورة/ المظاهرات التى أعفته من المدرسة واردا فى الفقرة الأولى، فإن الثورة المباغتة التى اندلعت «فى باطنه» كانت حركة حيوية داخلية، آثارها فقدُ جدته، وقد جاءت هذه الحركة (لاحظ الصفات): «مباغتة، متسمة بالعنف، متعطشة للجنون»، أى طفولة حية هذه التى يسترجعها الشيخ بهذا الوضوح حتى يعلمنا جمال انفجارات وعى الأطفال الداخلية، تلك الانفجارات التى تغلف بالجنس دون أن يكون بالضرورة جنسا (ولا يمنع أن تسمى جنسية دون أن تكون كذلك كما يفهم العامة الجنس)، لتنتهى الفقرة بالالتحام بالجميلة (طفل وطفلة)، وبدلا من أن نتصور أنها لذة النجاة بسبب الهرب من الشعور بالفقد بالموت، نفاجأ بأنه جذب الجميلة إليه، ولم يرتم فى حضنها خوفا من الموت المطارد، ومع أنه هو الذى جذبها وهو فى ثورته المتسمة بالعنف المتعطشة للجنون، إلا أن الجذب كان بكل ما يموج به صدره من «حزن وخوف». وحين يتذكر الشيخ (أو تبدع ذاكرته) هذا الخليط الجميل الذى يجمع فيه تداخل العواطف البشرية هكذا فى نسق متسق يرفض الاستقطاب والاختزال، نعرف أننا أمام أصداء تتردد أكثر منها أحداث تحكى مجزأة، أو ترمز إلى مفاهيم محددة مسبقا، وهذا يتطلب أن نعامل اللغة بطريقة متجددة، ربما هى أقرب إلى الطريقة التى نقرأ بها الشعر، فالثورة -مثلا- التى ذكرت فى الفقرة الأولى، غير الثورة التى ذكرت فى الفقرة الثانية، وهكذا.