كان صديقي الصحفي المشهور، في زيارتي بمكتبي في التليفزيون، أثناء رئاستي لقناة التنوير الثقافية المتخصصة، وكنت أبثه لواعجي في التعامل مع رئيس القطاع وقتها.. الذي يصر علي التضييق المستمر علي القناة وعلي فعالياتها وامكانياتها وحرية حركتها وانطلاقها.. ألخ.. وكيف انه كان يرفض باستمرار كل ما نتقدم به من اقتراحات (مهما كانت متواضعة التكاليف) لتطوير برامج القناة، والتقدم خطوات أوسع في مسيرتها وعملها وأفكارها!.. وكان يتردد - بقوة - وقتها الكلام حول سعي هذا الرئيس الهمام لإغلاق القناة لكل السبل الممكنة.. وان الاتجاه العام الآن (2008 وقتها) لا يحبذ الثقافة والفكر وإعمال العقل .. و.. و.. إلي آخر هذا الحديث الذي دار بيننا في هذا السياق. .. وإذ بصديقي بعد أن أحاط جيدا بجوانب الموضوع، وبحجم الحصار المضروب عليّ وعلي القناة بقوة في هذا الوقت، يقول مهونا عليّ ومخففا عني: - ياعم.. ما توجعش دماغك .. واربط الحمار مطرح ما يعوز صاحبه! وأخذت أنظر لصديقي في دهشة مشوبة بالاستغراب، أو بغرابة معجونة بالدهشة، وأخذت أفكر بيني وبين نفسي في هذه الجملة العبقرية المصرية مائة في المائة التي قالها الصديق الصحفي، وحتي بعد استئذانه وانصرافه، ظلت ترن في أذني بقية اليوم، وطيلة طريقي إلي بيتي، بل طيلة تلك الليلة التي لم أذق فيها للنوم طعما، وأخذت أقلبها علي وجوهها لأكتشف بعد حين من التأمل، انها جملة (ستينية) بامتياز.. أي تنتمي إلي مرحلة الستينيات وتعبر عنها، وربما قبل ذلك أيضاً، لا بأس.. الخمسينيات والأربعينيات والثلاثينيات.. إلخ..
«اربط الحمار مطرح ما يعوز صاحبه».. نعم.. لعلها تصلح للانتماء إلي كل هذه الفترات، وتمثلها بكفاءة واتساق تام، ولكنها لا تصلح - أبدا- للتعبير عن هذه المرحلة التي نعيشها الآن، علي الأقل في ربع القرن الأخير المنصرم، وهذه السنوات العجاف من القرن الجديد الحالي، وسأوضح ذلك حالا عزيزي القارئ، وبالمناسبة، فهي أيضاً جملة رغم دلالتها علي منتهي العبئية والسلبية، إلا أنها شديدة الانضباط في تعبيرها عن هذا الجانب السلبي نفسه، وفي اطار مرحلتها التي أشرنا إليها توا.. .. ولنتأمل سويا.. «اربط الحمار مطرح ما يعوز صاحبه». فأولا.. تحتوي العبارة علي جملة من العناصر الثابتة والواضحة التي لا شك فيها.. أول هذه الثوابت والعناصر.. ان هناك «حمارا» هذا عنصر مؤكد أول، وأن هذا الحمار له صاحب.. وهذا عنصر مؤكدثان، وأن هذا المالك للحمار، أو صاحبه ، له إرادة معينة في حماره، وطريقة معينة في التعامل معه، ووجهة نظر معينة، وتصور خاص في الكيفية التي يريد بها أن يربط الحمار، ثم أخيرا، هناك هذا الاجماع من كل الأطراف علي ربط الحمار.. إجماع من صاحب الحمار، ومن الآخر الضمني الذي يري ربط الحمار بطريقة أخري!.. ومن ثم وحسما لهذا الخلاف.. كانت العبارة التي تلزم هذا الآخر حدوده بحسم، وتدعوه لترك الأمر لصاحب الحمار.. تبدو منطقية جدا، وتعني بصراحة، إنه إذا تأزمت الأمور، وتباينت وجهات النظر، فعليك في النهاية أن تمتثل - حتي ولو لم تكن مقتنعا- لارادة صاحب الحمار في ربطه لحماره، في المكان الذي يريده، وبالطريقة التي يريدها، حتي لو بدت هذه الطريقة من وجهة نظرك أنت أيها الآخر.. يامن لست صاحب الحمار.. طريقة خاطئة، أو بعيدة عن الصواب، فهو حر ياأخي في حماره، وما انت إلامنفذ، أو موظف عنده.. أو عند حماره، وعليك في النهاية - أيها الموظف (اللمض) - أن تتعامل مع الموضوع حسب إرادة صاحب الشغل، أو صاحب العمل، أو صاحب الوظيفة، الذي هو أيضا المالك الأصلي والشرعي للحمار!.. وهو طبعا حر فيه وفيك.. بما انك تعمل عنده في وظيفة توجيه الحمار، وربما استخدامه، والعناية به، واطعامه ، وتنظيفه، وربطه في النهاية بطريقة معينة ، في مكان وزمان معينين .. إلا لو ارتأي صاحب الحمار 0 كما قلنا وكررنا - توجيه الحمار وربطه ولجمه بطريقة أخري، وفي مكان آخر!.. إلي هنا، وصاحب الحمار والموظف متفقان علي ضرورة (ربط) الحمار، بكل ما تعنيه مفردات هذه الربط أو الكبح، أو اللجم.. من تحكم في الحمار لما فيه صالح الأمة ومصلحة الشعب، وعلي انهما هما - الموظف وصاحب الحمار - يملكان معا هذه السلطة علي الحمار، وأن سلطة صاحب الحمار تجب سلطة الموظف الذي يعمل عند الحمار، أو يعمل للحمار، أو يستخدمه أو يوجهه أو يربطه.. الخ. إذن، هناك منظومة منضبطة من كل الأطراف.. الخلل الوحيد فيها - أحيانا- أن صاحب الحمار قد يري (أحيانا) ربط الحمار في مكان وزمان غير المكان والزمان اللذين يراهما خادم الحمار، حتي لو كان اختياره في غير محله، وأثبتت الأحداث ذلك! لا لسبب. إلا أنه صاحب الحمار ومالكه، وبسببه، وللقيام علي إدارته، استوظف هذه الموظف الذي اختلف معه في لحظة ما في كيفية ربط الحمار ، ومن ثم فقد نبعت هذه الجملة المنضبطة ، أو هذه المثل الشعبي الدال ليظهر الحق، ويعيد الأمور إلي نصابها، ويحدد الفوارق والمراتب بين السلطات المختلفة علي الحمار.. سلطة الموظف وأين تبدأ وتنتهي، وسلطة صاحب الحمار وأين تبدأ ولا ينتهي! ومن ثم، فهذه العبارة، بهذا الشكل، شديدة الانضباط، ودالة علي تراتبية وظيفية تاريخية عتيقة في بيروقراطيتها المصرية، وأصيلة في استنبات عناصر المثل الشعبي الدراج من صلب البيئة المصرية القح وخبراتها المتوارثة والمتراكمة عبر العصور، وفي دلالتها علي الحضور الباذخ والفادح والواضح والفاضح لشخصية الحمار في هذه البيئة!
فالحمار - كما نعرف جميعا - له حضور ووجود وشخصية في حياتنا المصرية العامة والخاصة، في الأدب والفن، وفي الريف المصري، وفي الحياة الشوارعية الشعبية المصرية حتي الآن.. وعند توفيق الحكيم مثلا، وعند قدماء المصريين قطعا، وعند الفنان السكندري الكبير محمود سعيد رسما، وتصويرا.. وعند الوجدان المصري العام الذي تسري علي ألسنته هذه (الشتمة) بشكل يومي دائم تقريبا.. للدلالة علي الغباوة والطيابة والعباطة والخيابة وقلة الحيلة.. حينما يتهاوي إلي الأسماع يوميا في أكثر من مكان، وعلي مختلف المستويات. في المدارس والجامعات والمصالح والمصانع والدواوين والمستشفيات وأقسام الشرطة طبعا.. هذه الكلمة السحرية الرنانة جدا.... يا حماااااااااااااار ! ولا ننسي أيضا أن الحمار سييء السمعة، حتي في القرآن الكريم ، ولنهيقه صوت منكر، وطريقة أداء منفردة، ويستغرق وقتا لا بأس به حتي يشبع حاجته (نهيقا) في الاحتجاج علي عمايلنا السودا ودنيانا الزفت.. وهو - الحمار- مفكوكا ومربوطا لا يملك من أمر نفسه شيئاً، ولا يتصرف بإرادته في مصيره، وكم عاني ويعاني، وشقي ويشقي، علي أيدي عربجية لا رحمة عندهم.. يضربونه ويكربجونه طيلة اليوم، ويلسوعون جتته المتقرحة من كثرة الضرب وبالسياط صارخين بغباوة وقساوة. - حا... حا ياحمار.. «طرقعة كرباج» شي... شي.. يا حمار «طرقعة كرباج» حتي اذا استهلك المسكين، ولم يعد فيه بقية تنفع، ولا قوة تشفع، وعجز وشاخ وهرم.. دفع به إلي قفص الأسد في حديقة الحيوان، ليفترسه هكذا عيني عينك ، وفي وضح النهار، ويمزقه إربا إرباهو وعائلته الكريمة من لبوءة وأشبال.. خاتما حياته البائسة أسوأ ختام ممكن، هذا غير الرعب والفزع والخوف الرهيب.. ياعيني.. الذي سيعانيه الحمار المسكين في لحظاته الأخيرة! وربما استولي عليه - في حالات أخري وبطريقة لولبية - جزار لا ضمير له ممن يقفون علي قارعة الطريق بعرباتهم البائسة التي تفوح منها روائح شواء مغرية، وصنع من لحمة (العجوز) المستهلك، المطحون طيلة عمره بالعمل الشاق ولسوعة الكرابيج.. كبابا حميريا للناس الغلابة الذين لا خبرة لهم البتة بطعم الكباب الحقيقي.. ومن ثم نقبل علي هذا الحمار المشوي في أسياخه الشهية لننعم بهذا الكباب الحميري المغشوش .. المهم أن هذا الحمار تبهدل في حياته مع المصريين طيلة عمره التعس، وطيلة تاريخه الموغل في الغلب والقهر من أيام الفراعنة وحتي الآن، إيما بهدلة.. وتمر مط مرمطة حميرية هو وبني جلدته وشعبه المهان وحتي مماته المأساوي دائماً.. المشار إليه، سواء بين أنياب الأسد وعائلته ، أو بأسياخ الجزار الغشاش!
وعودة من هذه الخواطر الحميرية التي استغرقتنا، يرجع مرجوعنا. للمثل الشعبي اربط الحمار مطرح ما يعوزه صاحبه .. وكما قلنا وافضنا، هي عبارة شديدة الانضباط علي السياق الذي كانت تجري فيه من (العشرينيات مثلا وحتي السبعينيات).. نعم شديدة الانضباط برغم دلالتها علي منتهي السلبية والعبثية، إلا انها شديدة الانضباط بالقياس إلي الفترات التالية للسبعينيات وحتي الآن!.. التي لم تعد فيها هذه العبارة صالحة للاستهلاك الآدمي علي الاطلاق.. حتي في الدلالة علي السلبية والعبث، لأن الأوضاع (الآن) فاقت - بمراحل هذه السلبية الساذجة ، والعبثية البسيطة التي كانت هذه الجملة تعبر عنها في أزمنة سابقة. لسبب بسيط، لأنك الان ببساطة لاتعرف لعناصر العبارة السالفة، ثوابت تذكر، أو يقينيات مؤكدة، أو تعريفات محددة مفهومة، فلا أنت - في أي مجال تختاره من مجالات الحياة العامة المصرية الآن - تعرف من هو الحمار في الموضوع بالضبط!.. ولا ما اذا كان هذا الحمار له صاحب من أصلة.. واذا فرض وكان له صاحب.. فأين يريد صاحبه هذا أن يربطه!.. هو لا يعرف ذلك أيضا، ومن ثم، تبقي أنت كموظف معاصر في حيرة من امرك، باتجاه أي خطوة تري اتخاذها.. ردا علي هذا الصديق الذي نصحك بذلك.. لأنك اولا لن تعثر علي الحمار مهما بحثت! .. وقد يلتبس عليك الامر - ثانيا- في النهاية.. في تحديد هوية الحمار.. بينك وبين صاحب العمل، وبين الحمار نفسه! ثم اذا أسعدك حظك بالعثور عليه شاردا نافراً هنا أو هناك - ثالثا- فلن تعرف للحمار صاحبا!.. واذا عرفت وتوجهت لصاحبه بالسؤال. رابعا.. أين تحب ان تربط الحمار؟ . لن تجد اجابة.. بل ولن تتأكد من تبعية الحمار لصاحبه او العكس!.. ومن انه يريد أصلا ربط الحمار، أو تركه منفلتا علي هواه.. ومن ثم ستشعر بالبلاهة والعجز!.. زيك زي الحمار بالضبط.. وأنت تتأمل للمرة الألف هذه العبارة الواضحة البليغة المنضبطة الدقيقة القاطعة الجامعة المانعة.. »ربط الحمار مطرح ما يعوز صاحبه«! فهمت... يا ............................... !