المتابع لتاريخ الثورات الإنسانية في المجتمعات علي مر الزمن يجد أن أي ثورة تعمل علي إحداث تغييرات أساسية بهدف تحقيق حياة أفضل للمواطنين.. وأن التنمية في البلدان المختلفة تتواءم مع البناء الاجتماعي بوسائل وأشكال ملائمة.. لذا كان العنصر الثقافي واحداً من أهم عناصر المشاركة في رسالة التثقيف لكل الجماهير سواء في العاصمة أو في مختلف الأقاليم.. وقامت »أخبار الأدب« في العدد 1033 بتاريخ 12 مايو والعدد 1034 بتاريخ 19 مايو 2013 بفتح ملف الثقافة في برامج الأحزاب السياسية لمعرفة المساحة التي تشغلها الثقافة في استراتيجية الأحزاب.. وقد أفردت في الملف الأول علي مساحة ثلاث صفحات كاملة لحزبي »الحرية والعدالة« و»الوفد« ثم جاء الملف الثاني يحمل النصوص والإرشادات الواردة في البرامج الحزبية الأخري لعدد 19 حزباً علي مساحة ثلاث صفحات. ومن الطبيعي بعد قيام ثورة 25 يناير 2011 أن نصل إلي أبواب مرحلة فاصلة في حياتنا بشكل عام ومنها الحياة الثقافية حيث ورد في النصوص المطروحة للأحزاب مشروع خطة متكاملة لتطوير النشاط المسرحي وتدعيم المواهب الجديدة في كل عناصر العرض المسرحي سواء في العاصمة أو الأقاليم مدنها وقراها. ولأن المسرح عشقي والعمل في الأقاليم معشوقي ورسالتي فبعد تخرجي في المعهد العالي للفنون المسرحية سنة 1963م أعطيت كل وقتي وجهدي للعمل في المحافظات لإنشاءفرق مسرحية وتدريب شباب المبدعين.. وكانت أمنياتي أن يتشرب الإنسان المصري في كل قرية وكفر ونجع روح الثقافة، وساهمت بجهدي مع الرواد الأوائل لاستنبات المسرح في الأقاليم حتي أصبح حقيقة واقعة لا يستطيع أحد أن يتجاهلها أو يقلصها.. وأصبح ضرورة فنية لا غني عنها لإحداث تغيير ثقافي جذري يتناول الكيف كما يتناول الكم أيضاً.. فليست التنمية الاقتصادية وحدها هي الهدف الأساسي ولكن لابد أن تواكبها تنمية اجتماعية لتحقيق رفاهية كل إنسان من خلال توصيل (المسرح) كواحد من المفردات إلي مستحقيه في كل قرية ونجع شأن القادرين والميسورين في القاهرة (العاصمة). ومع أني لست عضواً بأي حزب من الأحزاب لا في الماضي ولا في الحاضر لكني رأيت من خلال النصوص الواردة في البرامج الحزبية أن هناك مشروعاً طموحاً يداعب فكر وعقل الكثيرين وأن هذا يحتاج إلي وقفة متأنية متأملة لنعرف كيف ترسخت حركة التثقيف والتنوير ونتذكر معاً بعض الجهود التي بُذلت ليكون الماضي أساساً للحاضر والمستقبل حيث إن مفهوم الثقافة في أول الأمر لم يكن واضحاً في أذهان جميع طبقات الشعب إلي أن تنبه المسئولون عن التعليم في مصر أنه يجب أن يكون هناك جهاز يعني بعمل الدراسات ورعاية المواهب والعمل علي خلق وبذر الأفكار الأساسية لإنبات حياة ثقافية، فقامت وزارة المعارف بإنشاء أول مراقبة تكون مسئوليتها الأساسية (الثقافة العامة) وقد استوعبت هذه الإدارة مع بداية عام 1940 كثيراً من المجالات المختلفة وتشجيع الموهوبين في فروع الفنون إلي جانب تعليم الكبار، وفي عام 1945 انتدب أحمد أمين مديراً لهذه المراقبة، وكان وزير المعارف هو الدكتور عبدالرازق السنهوري.. فكون أحمد أمين مجموعة من الشباب من العاملين معه للبحث ودراسة ما يصلح لتطبيقه وما لا يصلح وتم وضع تقرير مفصل عن الفكرة التي وردت إلي أذهانهم أثناء دراستهم لمشروع التطوير للإدارة تحت مسمي (الجامعة الشعبية) وكان بين شعبها المسرح والسينما، وقد تحمس وزير المعارف وأصدر في 10 أكتوبر 1945 القرار رقم (6545) بإنشاء جامعة شعبية بمدينة القاهرة من أهم أسسها ترقية الملكات ورفع المستوي الثقافي والفكري والعناية بالأنشطة الاجتماعية علي أن تكون في مدارس وزارة المعارف ويكون النشاط في الفترة المسائية ونجحت نجاحاً كبيراً وعمت سائر الأقاليم بعد القاهرة ووصلت فروعها إلي خمسة عشر فرعاً. ويقول أحمد أمين: »وفي 16 مايو 1948 وضماناً للاستقرار وعدم التغيير أو التبديل في رسالتها.. وافق مجلس الوزراء علي مذكرة لاستصدار المرسوم الملكي بتأييد إنشائها في 17 مايو 1948 وتصدير التسمية إلي مؤسسة الثقافة الشعبية علي أن تعمل علي نشر رسالتها في بقية أرجاء المملكة« وظلت المؤسسة تؤدي دورها في التنوير بعد قيام ثورة يوليو 1952 وأثناء تأميم شركة قناة السويس أثناء الأزمات التي كانت تمر بها البلاد وامتد نشاطها بالمدن والقري إلي أن وصل (أربعة وخمسين) فرعاً. وظل المسرح الشعبي الذي تم تشكيله في عام 1946 بقرار من مجلس الوزراء ومجلس النواب يمارس نشاطه من خلال الجامعة الشعبية التي تحولت إلي مؤسسة إلي أن انضم عام 1956 لمصلحة الفنون عند إنشائها. وتوالت الإنجازات مواكبة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1946 الذي نص علي »أن للإنسان الحق في أن يشترك دون قيد أو شرط في الحياة الثقافية للمجتمع وأن يستمتع بالفنون وأن يكون له نصيب من التقدم العلمي وما يؤتيه من ثمار«، ومن هذا المنطلق كانت الثورة تضع نصب أعينها هذا الأمر »فأصدرت في 25 يناير 1956م قانوناً بإنشاء المجلس الأعلي للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في شكل هيئة مستقلة ألحقت بمجلس الوزراء«. وبعد ستة أعوام من قيام ثورة يوليو 1952 صدر القرار الجمهوري في يوليو 1958 بإنشاء زارة الثقافة والإرشاد القومي وتولي فتحي رضوان منصب الوزير لأول وزارة للثقافة في مصر، وتضمن القرار نقل مؤسسة الثقافة الشعبية من وزارة التربية والتعليم إلي وزارة الثقافة والإرشاد القومي، وفي الثامن من أكتوبر 1958 تم تشكيل حكومة جديدة تضم بين أعضائها اسم ثروت عكاشة وزيراً للثقافة والإرشاد القومي، وكان وقتها سفيراً لمصر في روما.. وقد اعتراه القلق والتردد بعد سماعه لخبر وجود اسمه في تشكيل الحكومة الجديدة لدرجة أنه عاد إلي القاهرة وصارح عبدالناصر برغبته في الاعتذار عن منصب الوزير تجنباً لوقوع صدام محتمل بينه وبين الشلل والمجتمعات المتسلطة.. كما ورد في كتابه (مذكراتي في السياسة والثقافة)، ولكن عبدالناصر صارحه بقوله: »إنني أعرف أنك ستحمل عبئاً لا يجرؤ علي التصدي لحمله إلا قلة من الذين حملوا في قلوبهم وهج الثورة حتي أشعلوها.. وأنت تعرف أن مصر الآن كالحقل البكر وعلينا أن نعزق تربتها ونقلبها ونسويها ونغرس فيها بذوراً جديدة لتنبت لنا أجيالاً تؤمن بحقها في الحياة والحرية والمساواة وإنني اليوم أدعوك أن تُقْبِل علي هذا العناء وذلك العمل الجاد.. وأن تشمر عن ساعد الجد وتشاركني في عزل القاحلة وإخصابها.. إن مهمتك هي تمهيد المناخ اللازم لإعادة صياغة الوجدان المصري. وظل النقاش بينهما بهدوء وصبر إلي أن وصلا في حديثهما أن يأخذ ثروت عكاشة فرصة ليلة أو ليلتين ليعيد النظر وعليه أن يتذكر أن قرار رئيس الجمهورية لا يقبل التغيير السريع..! وكان صديقه يوسف السباعي أول من حثه علي قبول المنصب وتحقيق الأمنيات القديمة لصالح الفن والثقافة.. وبدأ العمل ليل نهار، وقد رُوعي عند وضع الخطة أن تعم الثقافة جميع أنحاء البلاد وأن تشمل غالبية الشعب من عمال وفلاحين.. ويؤكد د. ثروت عكاشة ذلك بقوله »..كانت وزارة الثقافة قد بدأت منذ مطلع عام 1959 تتجه إلي الريف باهتمام حقيقي فقد أحست الثورة بطول سنوات العزلة والظلم فيما عاناه الريف المصري فخرجنا إليه بإمكانيات الوزارة المحدودة الضئيلة وكم صاحبت بنفسي المسرح الإقليمي إلي القري تشجيعاً لهذا النشاط منادياً كل المثقفين في البلاد أن يعدوا أنفسهم امتداداً لوزارة الثقافة وأن يمدوا أيديهم إلي إخوانهم في الريف. لذلك كان من الضروري إنشاء جهاز متحرك يجوب القري والمدن هو مشروع قافلة الثقافة وكان عبارة عن سيارات تحمل ألواناً من الفنون والمعارف.. بالإضافة إلي تجربة المسرح العائم الذي يتجول في النيل ويقف بالقرب من شاطئ قرية ليقدم العرض المسرحي بأسلوب مبسط يتفق مع ثقافة المشاهدين وقد تحرك في جولة واحدة فقط إلي الوجه القبلي وبعض مناطق الوجه البحري. بالنسبة لمصلحة الفنون التي أنشأها (فتحي رضوان عام 1955) فقد انضم إليها وتولي إدارتها أديبنا الكبير يحيي حقي يعاونه نخبة من الكتّاب والمفكرين مثل نجيب محفوظ وعلي أحمد باكثير مع كوكبة من الأسماء اللامعة أعطت من عصارة روحها الكثير.. وفتحت بآرائها وأفكارها العديد من الإنشاءات، وبعد قيام الوزارة اهتمت مصلحة الفنون بمختلف المجلات.. فأنشأت فرق الرقص الشعبي مثل (فرقة رضا- الفرقة القومية للفنون الشعبية ثم الأوركسترا القومي (السيمفوني)«.. كما تم إنشاء البرنامج الثاني إلي جانب إنشاء مسرح العرائس والعديد من المشروعات، واهتم ثروت عكاشة بإنشاء »قصور الثقافة« مؤمناً بالعمل الاجتماعي في نشر النتاج الثقافي مع معرفته بأن هذا الأمر الذي أقرته الثورة عند قيامها يتطلب جهداً كبيراً وزاد تصميمه علي تنفيذ هذا المبدأ بعد زيارته قصور الثقافة في الاتحاد السوفيتي، فبدأ تنفيذ المشروع راصداً له الميزانية المناسبة في الخطة الخمسية بدءاً بعواصم المحافظات ثم المدن ثم القري واضعاً نصب عينيه الريف المحروم والبعيد عن منابع الثقافة في العاصمة وكان من ضمن الخطة إلي جانب بناء القصور أن تقوم قوافل ثقافية تجوب القري من بينها تلك المسارح المتنقلة التي يهرع إليها مع كل عرض جمهور عريض.. ولتكون مركز إشعاع يربط بين ثقافة المدنية وثقافة الريف وكان تصميم القصر يضم مسرحاً مجهزاً بكل التقنيات من صوت وإضاءة إلي جانب قاعات الأنشطة الأخري. ثم أوفد المبعوثين إلي يوغسلافيا للإقامة من تجربتها في هذا المضمار ونقل الخبرة إلينا، وتولي المبعوثون العمل في هذه القصور بعد عودتهم.. وبعد استكمال بناء خمسة قصور ثقافة أذكر منهم أسوان- سوهاج- المنوفية.. وكان تأييد عبدالناصر المطلق لإنشاء قصور الثقافة ولربط ثقافة العاصمة بثقافة المدن والريف واعتبارها ضرورة من ضرورات الحياة والتقدم. ويؤكد د. ثروت عكاشة هذا بقوله »وجدت الفرصة أمامي مواتية لكي أضيف إلي تلك الجهود الأولي جهوداً أخري واجبة تتم ما فات وكان هذا بفضل المثقفين الذين استعنت بهم والذين هيأتهم النهضة الفكرية التي بدأت في مطلع القرن العشرين«.. ومن هذا المنطلق أنشأت وزارة الثقافة أكاديمية الفنون كإحدي مؤسسات التعليم الجامعي المتخصصة في تدريس الفنون مع أوائل عام 1959 لتضم معاهد (السينما- الموسيقي- الكونسرفتوار- الباليه إلي جانب معهد الفنون المسرحية) ثم اتسع مجال رسالتها بعد ذلك لتخريج الكوادر الفنية المتخصصة التي أرست أسساً للفنون علي قاعدة صحيحة. وفي سبتمبر 1962 ترك ثروت عكاشة الوزارة وتولي الدكتور (عبدالقادر حاتم) وزارة الثقافة والإرشاد في 29 سبتمبر، واستمرت هذه الفترة ثلاث سنوات وتم تغيير الوزارة مرة أخري وعاد ثروت عكاشة وزيراً للثقافة.