برحيل الدكتور ثروت عكاشة (1921 – 2012) مساء الاثنين الماضي، عن عمر ناهز ال91 عاما، ينسدل الستار على مرحلة كاملة من تاريخ مصر الثقافى والفنى والمعرفى «الرفيع»، مرحلة كان رمزها الأنصع والأبرز والأوضح دلالة على قيمة وقامة ودور مصر فى المحافل الدولية هو الراحل الكبير الدكتور ثروت عكاشة. ورغم أنه خلال العقدين الأخيرين، أو العقد الأخير بالأخص، كان عزوفا تماما عن الأضواء ووسائل الإعلام، عاكفا على ما أنجز من أعمال ومؤلفات مضيفا إليها ومنقحا إياها وموسعا لها، وهى زاد لا غنى عنه لأى متصل من قريب أو بعيد بالعمل الثقافي، فإنه كان ورغم احتجابه ملء السمع والبصر وكان حضوره من خلال مؤلفاته وأعماله التى قاربت المائة طاغيا ومتوهجا لا يخبو نوره أبدا بما قدمه للثقافة المصرية فكرا وعملا..الدكتور ثروت عكاشة، الفنان والفارس المستنير، المثقف الرفيع والمسئول السياسى الكفء والدبلوماسى المحنك، وأحد الضباط الأحرار الذين شاركوا فى ثورة يوليو 1952، كان من النخبة الطليعية المثقفة داخل القوات المسلحة، كان «ظاهرة ثقافية» عابرة للحدود والأزمان، فقد ولد عام 1921 وعاش شبابه الباكر فى الثلاثينيات من القرن الماضى، حيث كانت مصر تضج بكل التيارات الثقافية والنهضوية وقضايا الاستقلال الوطنى.. كان طه حسين قد كتب كتابه «فى الشعر الجاهلى»، وحسين هيكل روايته «زينب»، والفنان الرائد محمود مختار نحت تمثال «نهضة مصر». كان هذا السياق هو الذى تشكل فيه وعى د.ثروت عكاشة، فى هذا الجو المشبع بحب المعرفة المتطلع للنهضة، وكان يروى فى مذكراته «أنه كان عندما يأتى إليه جمال عبدالناصر وعبد الحكيم عامر إلى البيت يستمعون إلى الموسيقى الكلاسيكية العالمية»، كما كان يقول عن نفسه «إنه نشأ فوجد تيارات ثقافية عديدة فأخذ من هذه المذاهب ما توافق معه بل آمن أن الدولة لا بد أن تكون دولة راعية لهذه الفنون». يعد ثروت عكاشة فعليًا أحد قادة التنوير العظام فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر، وأحد واضعى أساس النهضة فى القرن العشرين، بل يزيد عليهم فى أنه كان صاحب مشروع ثقافى قومى خاص به، تولى قيادته والإشراف عليه عندما كان وزيرا للثقافة لمرتين خلال الفترة من 1958 إلى 1962 ثم تركها وعاد إليها عام 1966 ليخرج للمرة الثانية 1970 أى أنه قضى فى منصبه الرسمى كوزير للثقافة المصرية إبان حكم جمال عبد الناصر قرابة الأعوام الثمانية، دشن فيها عكاشة البنية التحتية الحقيقية للثقافة المصرية التى ما زلنا نتوكأ عليها ونقتات منها رغم ما أصابها من فساد ونخر فيها من سوس، لكنها ما زالت باقية تحمل عبقا لا يزول من تاريخ مصر الثقافى. أنشأ المجلس الأعلى للثقافة «المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب» وقتها، و«الهيئة العامة للكتاب»، و«أكاديمية الفنون»، و«دار الكتب والوثائق القومية»، وفرق دار الأوبرا المختلفة، و«السيرك القومي»، و«مسرح العرائس»، و«جهاز الثقافة الجماهيرية» الذى كان شرياناً ثقافياً فى مختلف أقاليم مصر. كما اهتم باستقدام خبراء عالميين لجمع التراث المصرى، إضافة إلى الدور الذى قام به فى توجيه نداء عالمى لإنقاذ آثار النوبة بعد تأسيس السد العالى وإعادة بناء معبد أبو سمبل فى أسوان، وتأسيس مشروع «الألف كتاب» الذى كان معنياً بنشر الترجمات لروائع الفكر والأدب والتراث الإنسانى باللغة العربية، إضافة إلى تأسيسه لمشروعات النشر الثقافى الجماهيرى التى لعبت دورا بالغ الأهمية فى تشكيل وعى وفكر أجيال من المصريين من أهمها سلسلة «المكتبة الثقافية»، و«أعلام العرب»، و«المسرح العالمى»، و«الرواية العالمية»، وغيرها من المشروعات الحيوية. لكن ورغم أهمية التأسيس والتدشين للبنية التحتية للمؤسسات الثقافية العملاقة بمصر (مجمع الفنون الهيئة العامة لقصور الثقافة دار التأليف والنشر الأوبرا معرض الكتاب ... إلخ) فإن أهم وأبرز ما أسسه ثروت عكاشة وساهم فيه هو المشروع الثقافى المعرفى الرامى إلى الوصول بالثقافة إلى مستحقيها من مواطنى الدولة المصرية فى كل مكان، فى كل قرية أو مركز أو ربع أو نجع، حيث الانطلاق من مبدأ «حق الجماهير فى المعرفة والثقافة»، فكان لزاما لتحقيق هذا المبدأ، كسر مركزية الثقافة التى كانت تحتكر الأنشطة الثقافية والمعرفية بالعاصمة، والانطلاق بالعمل الثقافى إلى كل ربوع مصر، فباستثناء القاهرةوالإسكندرية لم يكن هناك معاهد أو مراكز أو قصور ثقافية فى مختلف المدن والمحافظات، وكان الدكتور ثروت عكاشة لديه فلسفة أن تنتقل الثقافة من العاصمة إلى باقى المدن الأخرى، وهو ما كان له الأثر الأكبر خلال الستينيات فى تدعيم الطبقة الوسطى المصرية (التى تلقت ضربات قاصمة بعد ذلك، وجاء مبارك ليقضى عليها تماما خلال حكمه). من هنا أخذ ثروت عكاشة على عاتقه تأسيس البنية التحتية الثقافية الشاملة، وكان نواتها إنشاء مؤسسة «الثقافة الجماهيرية» أو «الهيئة العامة لقصور الثقافة» فيما بعد، لتنتشر قصور الثقافة فى أنحاء الجمهورية، التى شارك فى بنائها وتصميمها أعظم المعماريين المصريين، حيث كان يرى أن «قصر الثقافة» يأخذ شكل القصر بكل ما فيه من أبهة، ولكن أبهة العلم والمعرفة، مستفيدا فى ذلك من زياراته لعدد كبير من الدول الأرستقراطية والإقطاعية التى حولت قصور الإقطاعيين إلى قصور ثقافية يستفيد منها الشعب، ففعل ذلك كما بنى حوالى عشرة قصور ما بين الوجه البحرى والقبلى وهى تمثل الرئة الثقافية فى هذه الأماكن (هل أقول كانت للأسف الشديد؟). قاد ثروت عكاشة حملة قومية لبناء المتاحف الوطنية والفنية ومنها «متحف الفن الحديث» و«المتحف الرومانى» وتجديد «المتحف المصرى»، حيث كان عكاشة من أشد المؤمنين بدور التطور المجتمعى عن طريق البحث عن أصالته وحضارته.. فكان مهتما بكل ما هو جديد فى الفن، ولم يأت مسئول ثقافى فى تاريخ مصر كلها ارتبط اسمه بتشييد المؤسسات الثقافية التعليمية كمجمع أكاديمية الفنون بالهرم «البالية - سينما - مسرح - تمثيل - فنون شعبية» مثل ثروت عكاشة، وكانت كل هذه المؤسسات العملاقة نواة لمشروع ثقافى وفنى ضخم لم تسمح له الظروف باستكماله وهو مشروع إنشاء «مدينة الفنون» بالهرم على مساحة 16 فدانا، تكون مخصصة بكاملها لبناء مدينة للفنون (الحرف والمهن والصناعات اليدوية، الفنون الشعبية، الفنون الأدائية، السينما، المسرح، الرقص، السيرك، ... إلخ). أما ما لن يغفله التاريخ المصرى والعالمى على السواء، فهو دوره التاريخى ومساهمته غير المسبوقة فى عملية إنقاذ آثار النوبة، أكبر عملية إنقاذ فى تاريخ البشرية لتراث إنساني، والحملة العالمية التى قادها من خلال منظمة اليونسكو لإنقاذ معبد فيلة فى أسوان ونقله إلى أبوسمبل؛ لأن بحيرة ناصر وبناء السد كانت ستغرق جميع آثار رمسيس الثانى، وهو العمل الذى يعد إعجازا معماريا خاصة أن معبد أبوسمبل محفور داخل الجبل.. ولو حاولنا أن نتأمل الآن ونحن تفصلنا مسافة زمنية تزيد على نصف القرن لما تم من عمل يفوق الوصف لهالنا حجم هذا الإنجاز الجبار الذى يثير الدهشة والإعجاب والتأمل إذ كيف يتم تفكيك المعبد الفرعونى قطعة قطعة ثم تركيبه مرة أخرى وبناء جبل صناعى بما فى ذلك «قدس الأقداس»، وهو آخر جزء فى المعبد والذى يوجد فيه تمثال رمسيس الثانى حيث تسقط عليه الشمس فى 22 فبراير و22 أكتوبر يومى عيد ميلاده وعيد تتويجه على العرش وفى هذين اليومين تخترق الشمس جدار المعبد تدخل إلى قدس الأقداس وهى معجزة معمارية أيضا بكل المقاييس استطاع العلماء المصريون أن يتوصلوا إليها ويفعلوها كما صنعها أجدادنا الفراعنة قديماً. هذه المعجزة قادها د.ثروت عكاشة فى حملة دولية بالتعاون مع منظمة اليونسكو وتم جمع التبرعات من جميع أنحاء العالم لإنقاذ معبد أبوسمبل وهى نظرة استشرافية بعيدة وسابقة للدكتور ثروت عكاشة تخاطب الخلود وتؤمن بالعبقرية المصرية القديمة. كان من المرامى البعيدة للدكتور ثروت عكاشة تأسيس ثقافة موسوعية للفنون تقوم على قاعدة معرفية عريضة بتاريخها وأصولها كالسينما والفن التشكيلى وهو ما ساهم فيه من خلال موسوعته الفنية الضخمة «العين تسمع.. والأذن ترى» التى تقع فى 25 جزءا تتتبع تاريخ الفن منذ أقدم العصور وحتى العصر الحديث، وهو عمل موسوعى ضخم جدا، فوق طاقة مؤسسات بكاملها، أنجزها مفردا ثروت عكاشة. وكل جزء من أجزاء هذه الموسوعة اختص بحقبة تاريخية أو فن من الفنون (الفن المصرى القديم/ الفن اليونانى/ الفن الرومانى/ الفن البيزنطى/ فنون عصر النهضة.. إلخ) وكان منهجه الذى اتبعه بطول أجزاء الموسوعة هو التناول العلمى القائم على التحليل والكشف عن جماليات الصور واللوحات والأشكال المعروضة، بلغة أدبية رائعة، فأسلوبه يكاد يدنو بل يصل فى غالب الأحيان إلى «شعرية الأدب» مع مراعاته للدقة المتناهية والحفاظ على جميع المعايير العلمية التى يتطلبها البحث الفنى الذى يقوم به وكذلك القدرة الاستقصائية النادرة فى الوصول إلى المصادر والمراجع الكبرى اللازمة لمؤلفاته. ومن بين ما قدمه ثروت عكاشة، كذلك، تأسيس مبان للحرف التقليدية كمبنى الغورى وقصر المانسترلى وبيت السنارى فى السيدة زينب. وهذه القصور التاريخية كانت خاوية على عروشها، فحولها عكاشة إلى ورش فنية تستلهم الفن التقليدى فى الجمع بين شيوخ الصنعة وبين الفنانين التشكيليين المعاصرين وما زال بعض هذه المبانى يقوم بدوره التاريخى والحضارى والباقى طالته يد الإهمال. كذلك اهتم أيضاً ببناء الفرق الفنية كالموسيقيين والشعبيين والكونسرفتوار والباليه، ويجب أن نعرف أن فرق الكونسرفتوار لم تشهدها القاهرة من قبل إلا على يد ثروت عكاشة فكانت أغلب عروضه فى الإسكندرية باعتبارها ذات ثقافة متوسطية كذلك المسرح القومى ومؤسسات السينما والمسرح والفنون الشعبية باعتبار أن الدولة هى الراعى والممول لهذا النشاط وفوق هذا وذاك يحسب للدكتور ثروت عكاشة اهتمامه وتبنيه لشباب المبدعين. وكان الدكتور ثروت عكاشة صاحب فكرة «التفرغ الإبداعى» لكى يعكف المبدعون على أعمالهم ولا يشتتون أنفسهم فى الجهة التى يعملون بها وبين ممارسة إبداعهم، فضلاً عن أنه مؤسس مشروع صندوق الرعاية للفنانين والأدباء، وهو يختص بحالات المرض والعجز والوفاة وهو ضمانة مالية تحفظ للمبدع كرامته، وهو واجب أصيل للدولة. الدكتور ثروت عكاشة، رحمه الله، كان ظاهرة ثقافية متفردة له مكانة خاصة ونادرة فى تاريخ مصر، وللمرء أن يعجب ويتعجب فعلا كيف استطاع شخص واحد أن يجمع فى قلبه وعقله هذه المواهب والقدرات والكفاءات المتعددة والمتنوعة وهذا العشق الجارف للفنون والعلوم والآداب وأن يمتلك القدرة الفذة على الكتابة فيها وعنها وحولها وأن يكون فى كل ما قدم من مؤلفات أو ترجمات أو مصنفات موسوعية على درجة عالية من الدقة والسمو والإتقان والامتياز. أدعو ألا يكون من الصعب -جدا- أن نرى مثيلا له ولو خلال القرن القادم!! إضاءة المرحوم الدكتور ثروت عكاشة، من مواليد القاهرة فى 18 فبراير عام 1921م، عمل ضابطا بسلاح الفرسان عقب تخرجه فى الكلية الحربية سنة 1939، وحصل على دراسات عليا فى التاريخ العسكرى والعلوم العسكرية فى كلية أركان الحرب سنة 1948، والتحق بكلية الآداب جامعة القاهرة لدراسة الصحافة والإعلام، حيث كان يزامله فى الدراسة قبل الثورة يوسف السباعى.. ليحصل منها على ماجستير فى الصحافة عام 1951، وكان يكتب المقالات فى «جريدة المصرى» فى الآداب والفنون والفكر العالمى منذ عام 1949، لأنه كان ممنوعا على أى ضابط فى الجيش أن يمارس الكتابة أو أى نشاط آخر، وكانت جريدة المصرى آنذاك كان يكتب فيها كبار الكتاب والمفكرين فى مصر. شارك ثروت عكاشة فى حرب فلسطين سنة 1948، وانضم إلى تنظيم الضباط الأحرار، ليشارك فى قيام ثورة يوليو 1952، وعقب قيام الثورة يشغل عكاشة منصب الملحق العسكرى لمصر فى عدد من العواصم الأوروبية، برن، وباريس، ومدريد، ثم سفيرا لمصر فى روما، ليكلف عام 1958 بتولى وزارة الثقافة والإرشاد القومى، وهى أولى فترتى توليه وزارة الثقافة والفترة الذهبية فى تاريخ الثقافة المصرية التى شهدت تأسيس البنية الثقافية الشاملة لمصر خلال تلك الفترة، وهى أيضا التى شهدت الحملة العالمية التى أطلقها عكاشة لإنقاذ آثار النوبة، بالتعاون مع منظمة اليونسكو. ويحصل خلالها على دكتوراه الفلسفة فى الفنون من السوربون عام 1960م. وخلال الفترة (1962-1966) شغل منصب رئيس مجلس إدارة البنك الأهلى المصري، ليعود إلى منصب وزير الثقافة من 1966 إلى 1970. ترك د.ثروت عكاشة ثروة من المؤلفات والكتب والترجمات والمعاجم (قاربت المائة كتاب) ، منها: موسوعة تاريخ الفن «العين تسمع.. والأذن ترى» التى تقع فى 25 مجلدًا تناولت تاريخ الفن عبر العصور (الفن المصرى القديم/ الفن العراقى القديم/ الفن اليونانى والرومانى والبيزنطى/ الفن الفارسى القديم/ التصوير الإسلامى الفارسى والتركى/ التصوير المغولى الإسلامى فى الهند/ فنون عصر النهضة: الرينيسانس والباروك والروكوكو..). إضافة إلى ترجمة الأعمال الكاملة لجبران خليل جبران أو «روائع جبران»، و«المسرح المصرى القديم» لأتين ديورتون، و«مولع بفاجنر» (1965) لجورج برنارد شو، و«فن الهوى» (1973) للشاعر اللاتينى الأشهر أوفيديوس، و«مسخ الكائنات» (1971) له أيضا، وغيرها من الترجمات الرفيعة. وفى تحقيق التراث أخرج كتاب «المعارف» لابن قتيبة، وفى المعاجم «المعجم الموسوعى للمصطلحات الثقافية» الذى يعد مدخلا لا غنى عنه لفهم عوالم الثقافة المعاصرة فى أبعادها المختلفة التى تصل نتاج العقل بإنجازات الإبداع الإنسانى، هذا عدا سيرته الذاتية وتاريخه فى العمل السياسى والثقافى فى كتابه القيم «مذكراتى فى السياسة والثقافة» فى مجلدين. الجوائز التى حصل عليها أكثر من أن تعد فى هذا الحيز، أهمها الميدالية الفضية ثم الذهبية من منظمة اليونسكو لجهوده فى إنقاذ آثار النوبة، ووسام جوقة الشرف الفرنسى عام 1968، والميدالية الفرنسية فى العلوم للفنون والآداب، وجائزة الدولة التقديرية للفنون فى مصر عام 1987.