المدّ احون, و المنشدون ، والفنانون الهائمون بفنهم علي باب الله يغنون علي الأرغول، والكشّاكون، والمواويّة ، والأدباتية الذين يستجدون الناس في الطرقات وفي المحافل العامة بأنواع من الشعرالفكاهي، والزجل الساخر، كل هؤلاء الذين كانوا يترنمون بالشعر لايضيرهم ، ولا يضير الفن أو يغض من قيمته، أن يستخدمه هؤلاء كوسيلة لاستدرار نوال الناس وعطفهم، وكان يجب علي الآخرين ألا ينظروا إليهم نظرة المهانة والابتذال، وهم الذين خلفوا للفن أروع الآيات ، وقدموا للإنسانية أمتع الترانيم، وأعذب الألحان .. ف «هوميروس» - لحن الشعر الباقي علي الزمن، ورائد الشعر والفن أمام كل شاعر وفنان، ( كما يقول محمد فهمي عبداللطيف ) - لم يكن إلا شيخاً ضريراً، رث الهيئة زريّ الثياب، يستجدي الناس بأناشيده، ويمشي متنقلاً بين القري والمدن اليونانية متغنياً بمقطوعاته وأشعاره، ومن مجموع هذه الأشعار تألفت قصيدتاه « الإلياذة » و « الأوديسة».. كما أن الشاعر « أبا عبادة البحتري» كان في مطلع حياته يطوف بالأسواق في أسمال بالية، وفي يده مخلاة، فينظم الأشعار لباعة الخضر والبقول والفاكهة ينادون بها علي سلعهم في الناس، ويأخذ الأجر علي ذلك .. والمداحون لا يعتبرون انفسهم شحاذين، يطلبون العطاء بالاستجداء والتسول، ولكنهم يعتبرون أنفسهم أهل مهمة دينية يزْجون بها إلي الناس مواقع العبرة والعظة، ومن الأزجال التي يتغنون بها ، قولهم : ( أمدح اللي شعّ النور من مقامه القمر والشمس ما أحلي لثامه كل ما أمدح واكرر في كلامه يستريح القلب حمال الأسية ) أما المنشدون، فلا نقصد أولئك الذين تخرج في مدرستهم عدد كبير من أعلام الغناء والتلحين في الجيل الماضي أمثال عبده الحامولي، والشيخ يوسف المنيلاوي، والشيخ سيد درويش ،والشيخ زكريا أحمد، بل نقصد طائفة الفنانين الهائمين يطوفون بالقري والمدن، وحيث تقام الموالد للأولياء ، وفي أيام المواسم والأعياد، وهم يتغنون بالأشعار والأزجال في أصوات جياشة عميقة النغم، في فن هائم مرسل مع الطبع والمنطق علي السجية، وهم يغنون من شعر الإمام الشافعي: (دع الأيام تفعل ما تشاءُ وطبْ نفساً إذا حكم القضاءُ ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاءُ ) وكذلك كان يفعل الكشّاك والمواوي ، فالكشاك - الذي لا يملك من حطام الدنيا غير حمار عليه « خُرْج «و» حِرام «من صوف الغنم ،هو فراش الصيف وغطاء الشتاء ( كما يقول الأبنودي )، وهو وُجِد ليشاهَد ،أي (لتتفرّج) عليه ،وليهبك ما تخجل - أنت - أن تفعله ، وما قد تحسّ أنه ( قلة قيمة )، والكشاك قد يتشابه في ذلك مع لاعب السيرك ، الذي أطلقوا عليه لفظ «البلياتشو» ، ولكن البلياتشو كان صامتاً، والكشاك يغنّي عن الأجاويد فيقول : اللي حمومهم لبن وأنفاسهم الطيب علام القبايل، حلوين الشمايل أصَلا الأصايل سلام عليهم من بعيد وقريب ..ح