مع ضوء الصباح تمتد أشعة الشمس كالعادة لتخترق حجب المنزل متسللة إلي غرفة نومها فتنهض لفتح الشباك لتحرر من قيودها ثم تسرع إلي ذلك الكرسي الخشبي تلتمس مكانها فيطول صمتها.. شاردة الذهن.. مرتجفة القلب.. تائهة النظرات.. حائرة.. تتلاعب تعبيرات وجهها وكأن شريط الذكريات يتلجلج بخاطرها. ظل الجسد المرتجف أسير ذلك الكرسي الخشبي.. يعيش مع عالم أقسم ألا يعود.. وفي غمرة شرورها شعرت الأم بلمسة أنامل رقيقة تربت علي كتفيها.. تقدمت القدمان الصغيرتان بضع خطوات من مقعدها.. فجلست بين قدميها.. تقابلت العينان قضبت البنت جبينها.. واضطرب فؤادها حين رأت عيني أمها تنهمران بالدموع.. نظرت لأمها نظرة حانية وكأنها تريد أن تسرق من عينيها الحقيقة. قالت سماح بلهفة. - مالي أراك ياأمي شاردة الذهن هكذا؟.. هل تعانين من مرض فأحضر لك الطبيب؟ قالت الأم وهي تحاول أن تعدل من هيئتها.. - لا دعي للطبيب يا حبيبتي فأنا لا أتوجع والحمد لله. أمسكت سماح بيد أمها.. ونظرت في عينيها ثم قالت بحنان» - لا ياأمي منذ أن أتيت إلي هذه الدنيا وأنا أراك دائماً مشغولة البال.. سارحة لا تري عيناك الوسن.. فيطول عليك الليل.. وتتراكم فوقك الهموم التي مازالت تراوغيني عنها.. وتسبق دموعك لسانك ثم تلزمين. فراشك ولا تتحدثين مع أحد.. أريد أن أعرف ماسر هذا الحزن؟ كلما نظرت إلي عينيك رأيت فيهما كلاما كثيرا لا أفهمه.. فضفضي يا أمي.. خبريني عما أصابك فأنا سماح ابنتك الكبري لا بل صديقتك سماح أليس كذلك..؟ ابتسمت الأم ابتسامة خفيفة أضاءت وجهها العبوس فبدت كوردة تفتحت بعد ذبول.. فهللت سماح فرحة: - أمي تبتسم بعد طول بكاء.. هلم حدثيني عن سبب حزنك وكلي آذان صاغية. قالت الآم وهي تدير عينيها إلي جدران المنزل: - ليتني أعلم من أين أبدأ ولا كيف أبدأ.. فقصتي هذه قدره قدره رب الأقدار.. ليس لي أو لغيري يداً فيه.. ورغم كل ماعانيته فأنا حامدة شاكرة فضل ربي علي. أخذت الأم نفسا عميقاً واسترسلت في حديثها تقول: - من هنا وعلي الرغم ما بيننا من المسافة أجدهما تائهين حائرين لا يدريان أين ومتي سيكون مصيرهما.. هناك علي أرض السويس يعيش أثنان جمعهما الحب وطوق عليهما بجناحية.. جدي وجدتي. - نظرت الأم تجاه الشباك تلألأت دموعها وأخذت تقلب صفحات الذكريات. وأقول لكم وبصدق ورغم أي عوامل.. فإنني علي استعداد بتحمل المسئولية كلها.. ولقد اتخذت قرارا أريدكم جميعا أن تعينوفي عليه.. لقد قررت ان أتنحي تماماً ونهائياً عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي وأن أعود إلي صفوف الجماهير وأؤدي واجبي كأي مواطن آخر. امتدت يد جدي لغلق المذياع.. وسار بخطوات متثاقلة وهو يقول: - لا.. مستحيل تنهدت جدتي وقالت بحزن مرير: - انظر كيف احتلت سيناء والعريش ودمرت السويس.. لقد أصبحنا فريسة بين أنيابهم. فاسترسل جدي ثائرا: - لن يتركنا عبدالناصر.. لن يتركنا. قالت جدتي متنهدة: - أشعر وكأن جبلا قد أطبق علي صدري. - ليس صدرك وحدك بل صدر كل مصري يعيش علي أرض هذا الوطن.. حبيبتي لابد من الرحيل. كانت تلك الكلمة آخر ما قيل في دارهما بالسويس.. نقلت تلك الكلمة عبر الريح من مكان لآخر.. سمع صداها كل من أراد الرحيل.. الفرار. رحل جدي وجدتي ببناتهما الثلاث.. غادرتهما الطيور وهي تعلو بالافق مرفوقة بجناحيها في الفضاء معلنة الرحيل.. حاملة احزانها وآلامها.. أما الحبيبان لم يجد جناين ليفرا بهما إلي عالمهما المجهول سارا يتخبطان بالطرق.. تسلل إلي عظامهما قسوة البرد.. وأضعف قلبيهما أشباح الظلام.. انها لم تكن النهاية بل البداية بداية الرحيل. جلس الأثنان علي الأرصفة يتحسسان الطرق باحثين عن أي عربة وأخيرا وجداها آتية من بعيد.. وقفا في منتصف الطريق يلوحان بأيديهما في محاولة لايقافها.. وبلهفة خاطفة قال جدي: - نريد مساعدتك أيها الرجل.. هل لك أن تحملنا إلي مصر.. ؟ هيا يا عواطف أركبي.. ركب الاثنان العربة دون أن يسمعا أي رد بموافقة السائق.. فلقد ذهل.. ولكنه التمس لهما العذر.. لانهما ملهوفان علي تلك النجدة منذ ساعات طوال. سارت بهما العربة.. أخذا يتأملان شوارع السويس.. بيوتها التي لاتبدو لها ملامح من أثر الحريق والانفجارات.. فسالت من عينيهما دموع حارة.. وامتدت يد كل منهما تمسح دمعة الآخر. رحل الاثنان عن عالم الدماء. بدأ القدر يتهيأ.. لاستقبالهما بعد أن عزما علي الرحيل سارت العربة في طريقها إلي أن هم الليل بالانصراف وبدأ يلملم أنيابه المتناثرة علي جدار الخوف.. فأذنت له الشمس بالرحيل،، وقفت العربة علي حدود مصر.. هبط الاثنان.. التمسا طريقهما بخطوات متثاقلة إلي أن وصلا إلي دارهما بمصر.. هرولت البنات الصغيرات فرحات بالمنزل الجديد نظر الأبوان بعينين باسمتين إلي بناتهما وكأنهما يقولان البنت حياة فهن للحياة والحياة لهن. سرعان ما مرت الأيام والشهور والسنون. وكبرت البنات وأصبحن عرائس كالبدر ليلة تمامة.. أوسطهن أمي عفاف فلقد. شغفت قلوب من رأها.. فهي ذات سحر وجمال.. الأعين تختلس النظر إلي جمالها الساحر الفتان.. الكل يتمني كلمة من فيها.. فكلماتها تسقط علي القلوب كما تتساقط قطرات الندي علي الزهور. من ينظر في عينيها يشعر بجمال الحياة ورقة مشاعرها.. من يتحدث معها يشغف بحيائها.. وجهها ينم عما تضمره من خفة الروح وسماحة الأخلاق.. تمني الجميع أن تكون سيدة قصره ولكنها تعلقت بجلباب أبي.. تعلق القلبان في عش صغير يرفرف عليهما الحب. تمر الأيام والحب يكبر في صدريهما وأطفالهما يمرحون في أرجاء المنزل.. وفي ليلة من ذات الليالي محملة بالعواصف والأتربة قرب موعد شم النسيم أعلن الجميع عن قيام رحلة إلي القناطر.. عزم الجميع علي الاشتراك في الرحلة.. ومن بينهم أمي.. فدنت من مقعد أبي وربتت علي كتفه في رقة وحنان وهي تهمس في أذنه: حبيبي أود أن أصحاب أقاربي في رحلتهم إلي القناطر. قل مضطربا. البحر لا يعرف الأمان.. وأخشي عليك من غدر الأمواج استريحي الآن ياحبيبتي وسأنتهز أقرب فرصة وسنقوم برحلة سويا. أخفت أمي حزنها حركت رأسها متظاهرة بالموافقة.. ولكن التقاء العينين أفصح عما في قلبها من الرغبة فارتمت علي سريرها تحاول أن تغالب عبرة ترقرقت في عينيها.. أما هو فشعر بها إنه لا يريد أن يشعرها بالحرمان. ولكنه الخوف/ الفرار من القدر الذي يخشاه. ظل أبي ممدداً علي السرير مادا راحتيه خلف رقبته مضجع رأسه علي الوسادة عائما في تفكير عميق. سرعان ما تسللت أشعة الشمس من شرفة المنزل فلن يشعر بنفسه إلا وهو يوقظها من نومها وهو يقول بأنفاس متقطعة: ياحبيبتي ارتدي ملابسك واستعدي للذهاب إلي الرحلة. نظرت إليه وقلبها ينبض فرحا وقبلته قبلة حارة علي جبينه في لحظات سارعت فيها الزمن وعلت فيها دقات الساعة.. ارتدت ملابسها ثم نظرت إليه بعينيها الباسمتين ووجهها البشوش وقالت: سأستريح يوما وأكون لك العمر كله. ولكن قلب الأم لم يتحمل الفراق دون أن يتشبع برؤية الأبناء هرولت إلي حجرة نومها وبهدوء أنهمرت عليهم بالقبلات..... وكأنها واثقة انها لن تعود.. عاودت النظر إلي أبي بوجهها المرح الذي أحاله شبح الخوف وعدم الاطمئنان فقطعت أشجان الصباح مهرولة للخارج. مازالت نيران القلق تلهب قلبيهما.. الساعات الطوال تمر كأنها أعوام.. إمتدت يد أبي المرتعشة لتستند بالحائط.. عقلة يدور.. اشتد عليه القلق.. شعر باختناق شديد فلقد خيل إليه أن روحها معلقة علي صفحات الموج.. لا يدري أمستقرة أم طوتها الريح. أمتدت يده لتفتح المذياع لعله يشغله بعض الوقت.. ولكن رياح القلق المعطرة بالخوف والأسي أقسمت ان تتملك منه.. أما هي فهناك بابتسامتها الوديعة وروحها المألوفة.. الكل أمامها يضحك ويلهو غير أنها لم تسمع غير دقات قلبها.. ناظرة إلي السماء.. مشتته النظرات.. تساءلت في صمت: - متي أعود.. ؟ - سارت السفينة تتلمس طريقها.. الأمواج تعلو وتهبط.. الشمس تغيب عن الأعين معلنة الرحيل.. هبت ريح عاتية كشرت عن أنيابها.. صادرة صوتها المروع التي تهتز لها الأجساد وتنخلع لها القلوب.. السفينة تتراقص وسط البحر.. ظنت أن الموج يداعبها. فقدت توازنها.. علا الصراخ.. الأجساد تترنح.. القلوب ممزقة.. العقول مشتته.. حاولت الأجساد الفانية ان تنقذ روحها المتعلقة فوق دوامات الامواج.. ولكن صفحات الحياة بللتها مياه المطر. ومع رحيل آخر شعاع للشمس رحل أكثر من عشرين روحا فلم يبق غير أجساد محطمة أسيرة للطمات الموج تصطدم بالقاع واحدة أثر أخري.. التصقت ارواحهم بزفير الأسماك. صمتت أمي برهة تلتقط فيها أنفاسها وتكفكف دموعها وأسترسلت في حديثها: - رحلت أمي ورحلت معها السعادة تاركة الحزن مخيماً ينشر رياحه المؤلمة في أرجاء المنزل. ومع صباح يوم جديد ألم الجميع بالحادث المشين. ظل أبي ساهرا لم يرحم نفسه من البكاء.. لم يصدق انه لم يرها.. ظل صدي صوتها يتردد في أذنيه. الأطفال يبكون.. تتعالي صراخاتهم.. تتساءل وجوههم البريئة. - ِلمَ تركتنا أمنا يا أمي.. أين ذهبت.. أين؟ لم يستطع أبي أن يجيب فيهرب من أعين الجميع.. يختلي بنفسه في حجرته.. لم يشعر بنفسه إلا ويده تمتد لتمسك بالقلم ينعي حبيبته.. تلك الكلمات من وحي خاليه نسج حروفها نزيف ألمه ودونتها دقات قلبه: زوجتي الحبيبة عفاف. بقلبي الذي أفجعته صدمة فراقك.. ومشاعري التي مزقتها أحزاني وحسرتي علي شبابك وآمالك التي عجل بهما القدر. أنعيك يا حبيبتي يامن منحتيني حبك وأغدقت علي باخلاصك ووفائك، وكنت أملا مشرقاً ووجهاً باسماً ينير لي المستقبل وروحا طيبة وادعة.. وأخلاقا عالية تزيل من أمامي الصعاب ستظل صورتك الجميلة وذكرياتك الحلوة وآمالك العريضة صورة نابضة في قلبي.. وسيظل حبي لك قوياً لن يموت حتي نلتقي في الحياة الآخرة الباقية. حبيبتي الغالية: أولادك الصغار أمانة غالية عندي سأكمل رسالتك وسأحقق أملك بإذن الله. وسأخلق منهم نشأ يكون قدوة وفخراً.. وأسال الله أن يوفقني ويشد من أزري ويذلل لي الصعاب.. ويعوضني خيراً ويمنحني الصبر علي فراقك. زوجك المخلص حسني مرت الليالي بطيئة وهي تجدد أحزانها بارزة سيوفها التي تبتر القلوب. أمتدت شفتي الصغيرة تقبل يدا أمها وعيناها تفيضان بالدموع قائلة: - أتخشين الحياة يا أماه؟ ابتسمت الأم ابتسامة ضعيفة وتنهدت بحرقة من أعماقها قائلة: - لم أخاف.. وممن أخاف.. وأي شيء يخيفني ما أنا بخائفة ولا خوفاً يخيفني.. فاذا تجرأت أخفت الخوف مني.. فأن خاف لست أدري أيخاف مني القوم أم يخاف الموت مني.