-1- الأمور تتبدل بطريقة غريبة، وأنا آخر من يعلم.. ينهار الروتين اليومي، وما ألفته حواسي.. أنتقل - لمنطقة، علي الحافة - دون إعداد سابق، ولا أفهم.. تصافح عيناي رؤي الشاطئ المقابل، بجنوده اللاهين، وهم يلعبون الكرة، ولا يأبهون لشيء.. بل أكاد أسمع أصواتهم، كأنهم بيننا، وأنا واحد منهم، ولا نطلق قذيفة واحدة، ولو علي سبيل الإزعاج.. لا أفهم أيضاً.. هل أعيش لليوم الذي تتوطد فيه أركان الوثبة الجديدة.. لتصبح - هي أيضا - روتيناً آخر تألفه الحواس؟!.. لا.. قد لا يحدث هذا.. فهناك مقدمات عديدة، قد تجعل الوثبة معجزة - عند ذلك اليوم - ومعروف أننا أصحاب معجزات سابقة.. أكف عن أي سؤال، خشية فوات أوانه، فأثير سخرية المحيطين.. باعتبار أني أول من يعلم، فأنا كبيرهم، وقائد لوحدة فرعية صغيرة، أغلبها من خيرة المؤهلات العليا.. شياطين،، لا تفوتهم فائتة - كما يقولون - يفهمونها وهي طائرة.. يلمحون نقاط الضعف من بين ركام النعرات الزائفة، ومن عثرات الأحاديث العادية.. بصمت القادة الحقيقيين، أترفع عن أي استفسار، لأربأ بنفسي عن مواطن الضعف.. برغم أني أحبهم جميعاً، وأتوق لطرائف أحاديثهم.. لذا فإني لم أتبين - في حينه - كيف هجر فلاحو قرية »الشط« تلك المنطقة، العامرة، الواقعة علي الحدود الغربية لوحدتنا - بتلك السهولة - دون أن ألحظ، وتركوا برفقتنا ولدهم »وهدان« وحده، بكل اطمئنان، وثقة - برغم أنه صبي، تخطي بالكاد مرحلة الطفولة - لكي يلهو بيننا، وهو يرعي بجاموسة، وبعض الخراف والماعز، والدواجن، علي نبات »الحلفاء« و»ياسنت« الماء، والأعشاب الكثيفة التي يعج بها شاطئ الترعة العذبة، الموازية للقناة.. وقتها، لم الحظ كل ذا لأني كنت مهموماً، وحائرا بفعلتي التي حلت بغير أوان، وجعلتني أتلوي من فرط الخشية، والخجل.. فقد أبتل سروالي من أثر احتلام غشيني - ليلة البارحة - علي غير إرادة مني .. كنت علي صوم، ورائحة السائل، ولدغ البلل، يجعلاني أدور حول نفسي - بلا هدف - بفعل وسواس الخشية من دوام النجاسة، وما قد تجلبه من سوء المآل ، لمن يجابهون أخطارا مثلنا.. وقعت في مأزق، وكنت متطيرا من حالي العجيب.. الحدث الأكبر!!.. كيف حدث هذا؟!.. لم أحلم بامرأة من يوم أن حللت بالمكان الوعر.. ولاطاقة لي علي الخيال، فالواقع يتلبسني، ولا مفر.. وهناك مرقدي، سويته بين نتواءات قاع مروي جفت منه المياه، وتشققت تربته، بعد أن قمت بفرد، المشمع، والبطاطين، والأغطية علي »حراشيف« نبات الحجنة، والبوص البري، ونباتات شوكية أخري يعج بها قاع المروي.. حقيقة لم أنم، ليحدث ما حدث، فكيف يغمض لي جفن علي وخذ نتؤات حادة، وطنين ناموس، أعلن - من فوره - ثورة عارمة، علي ظلم الاجساد المزاحمة، وشرع في الانتقام.. لم تكن الا غفوة قصيرة، غشيتني في أذيال الحلكة، صحوت بعدها مجللا بخزي فعلتي.. ولم أجد لذلك سبباً، سوي وعورة النومة، وألم العمود الفقري، وانزلاق للرقبة، خارج وسادتها، مما عرضها للالتواء، وكشف مساحة لا بأس بها من معالم الوجه. أصبحت وليمة لأفواج الناموس.. لم يكن في الأمر ثمة طيف لامرأة ولا غيره.. والفعلة - كما يقولون - لم تتجاوز مجرد معادل لذة، أستحضرها الجسد المنهك - في غفوته - ليخمد بها أتون الألم، حتي يطيل أمد الغفوة.. هب أنك مكاني.. وهذا الحدث الأكبر.. وإحساس غامض بأنك مقبل علي مغامرة، لا يعلم هولها، إلا الله وحده.. ولا سبيل إلي طهارة حقيقية، تقابل بها وجهه الكريم، في تلك البقع الشعثاء..لاشك سوف تنتظرك عاقبة وخيمة.. كلها أفكار، مربكة تطن بالرأس، ولم أغادر بعد مرقدي، من فرط خدر الغفوة، والنشوة المبتورة.. افقت علي زعقة خوار مفاجئ، واهتزازات مرعبة تحت الرأس مباشرة.. تملكني الفزع، وأنا أقف منتتراً، بعدما شاهدت رأس »الجاموسة«، بقرونها المشهرة، تكاد تلامس رأسي.. وحرارة أنفاسها العبقة برائحة الأعشاب الطازجة، تلفح وجهي.. كانت - دون قيد - قد سوت لها - هي الأخري - مرقدا بقاع المروي، باتجاه معاكس لمرقدي، فوق أحراش الحجنة والحلفاء، والبوص، والنباتات الشوكية.. تتمطي باسترخاء خامل، وترعش جلدها الداكن، لطرد جحافل من الحشرات المتطفلة، وتمد عنقها بين الحين والآخر لتقضم »خلبا« من عيدان الحجنة، التي تنتهي بجذورها تحت فراشي، فتسبب الاهتزازات المرعبة.. أخذني المشهد الهزلي علي غرة.. تأملته بإمعان الصدمة، ولم أطل،فهدأت روحي قليلاً.. ياه.. ذكرت.. أين، وهدان؟!.. كان من الممكن أن تجوس بأظلافها في بطني، وأنا نائم.. ما منعها؟!.. لعلها الصدفة.. أوه.. لم يبق إلا هذا.. تملكني الغيظ وأنا أقلب الأمر علي وجوهه.. هل أقفر المكان إلا مني، وهذا الكائن السادر في اجتراره، وتأملاته الكونية؟!.. صرخت حانقا: - عسكري يا خدمة.. راح صوتي ادراج الرياح.. لقد انتهت خدمة الليل، وبزغ نهار بضحاه الدافئ.. عادت الحياة لمجراها الطبيعي، دون أن يلحظ مكاني أحد، لأن فراشي يربض بمكان واطئ، لا يسمح بالرؤية، فهو دون سطح الأرض بكثير، شأن خنادق المواصلات.. تفرق الجنود علي مرمي البصر، ليمارسوا طقوس الشئون الإدارية، وهي السمة البارزة لأيام العطلات، الخالية من المشاريع، أو التراشق بالنيران، لأن الوحدات قد تكدست، بشكل لافت وخطر، في بؤر متلاحمة، وتوالي احتلالها لمواقع متقدمة، دون أن تكف بمهمة واحدة مفهومة من أعمال التدريب أو القتال، وغشيت المنطقة بأكملها غلالة من غموض، أيقظت بنفوس مترددة بؤر صدئة من التوجس، والشائعات.. هية.. علي وجه العموم، نحن قيد الأوامر.. بعض من تأملات عشوائية، أوهنت شحنة الغيظ.. فلم يكن الأمر سيئاً علي كل وجوهه.. بل إنه قد زغت نذر التفاؤل، بايقاع ومضات متباعدة دغدغت كياني بشيء أقرب للغبطة.. تيقظت حواسي بالقدر.. عدت أنظر لمفردات الموقع بارتياح.. ومشهد »الجاموسة« المنطرحة أمامي باسترخاء آمن، ذكرني بغيبة الولد »وهدان« وقرب ترعة المياه العذبة من الموقع، مما أشعل بالرأس فكرة الاستحمام، لسد الذرائع أمام فيض الوساوس المهلكة. قبل الوقوف علي حال »وهدان«. -2- لم تصادفني عثرة، وأنا أهرول علي حصي مدق وعر يمتد ما بين الترعة »وخص« يقع في منطقة نائية عن الموقع، علي الأطراف الغربية للقرية.. كنت اقصده بغرض استخدامه »دروة« لحمامي ميداني - بعد نزوح أهله - حاملا جركنين ثيلين مملوءين من مياه الترعة، محاذرا الوقوع في مجالا المسح الرداري للعيون الفضولية، كلص هارب.. حتي أبعد عن نفسي حرج التكهنات.. في البدء كان الطريق مقفرا إلا من بعض الضفادع، والحشرات، التي تتقافز أمامي بعد أن أزعجها دقات كعبي البيادة المسرعة.. إلا أن القدر لم يمهلني طويلاً.. وكاد أن ينكشف المستور، فقد اصطدمت - وجها لوجه علي امتداد المدق - بصخب مطاردة هوجاء لسرب من بط الولد »وهدان« - كان يسبح بمياه الترعة بوداعة - من جانب رهط أعرفه من جنود الوحدة.. كان أقدمهم ويدعي السيد زكي يشهر سونكيا يقطر دما في يد، وبالأخري يقبض علي أرجل بطة تتدلي رقبتها المذبوحة.. وفي مشية لا يسمع لها صوتا، خاتل أخري، كانت تلاحق مؤخرة السرب، وقبض عليها بمهارة محترف، بعدأن نقل مقبض السونكي من يده إلي فكيه في غضون وهلة لا تكاد تحس... م .... مم... ما هذا!!.. أأسعي بذهن مضطرب كي أواري نجاسة، فتقفز أخري تفقأ العيون.. هل أعبرها هي الأخري - واكتفي برفع أذيال ثوبي، حتي لا تلامسها!!.. ولا من رأي، ولا من دري.. هل يكفي هذا النوع من التطهر، نظرية: البعد قدر الإمكان عن موطن النجس!!.. يقيني أن طهارة الابدان، شكل يمكن مواراته.. أما طاهرة النفس فموقف لابد من اشهاره، ضمانا لسلام النفس.. حكمة فرضها واقع الحال، وتأمل ما جري.. في المرة الأولي، أمر الله بالستر.. وهأ أنذا أسعي لطهارة بدني في خفاء، لأنه شأن يخصني وحدي.. هذه المرة جاءت بجلاجل.. الموقف يخص الكافة.. شاهدوني بلا ريب.. بل تيقنوا من رتبتي.. تنقلب الموازين، فيما لو تخاذلت، عن المحاسبة في حينه.. ولا يستعبد أن تحل فضيحة.. ثم في النهاية، أين سلام النفس!!.. في الحالين فرق شاسع ما بين طهارة، وتطهر فلتكن الطهارة بمدلولها المطلق ..بحرص وسدت »الجراكن« أرضا، وحتي لا تريق ماؤها الطاهر.. وبإشارة غاضبة من ذراعي لوحت لهم، إشارة قاطعة: - الجميع .. قف.. قدم نفسك. لاذوا جميعا بالفرار، غير عابئين - إلا واحد - وقد قر في روعهم، أني لم أتعرف علي واحد منهم.. لم تكن في نقيصة الجبن الماثل، صدمة تستحق الأسف، أو تولد أي رغبة في عقاب.. بل إن ما بدا - من أقدمهم - من فتور في الخطو وتلويحات ضيق باليد المعلق بها البط المذبوح، في اشارة بالغة التحدي.. هو ما فجر الدماء في رأس، وجعلني لا أدري بما حدث بعده: حرس.. سلا اا ح ح ح .... صدحت المنطقة بأكملها بأصداء النداء.. وهرج المجاوبة.. بل تناهي إلي سمعي طقطقات بعض من طلقات الأسلحة الصغيرة المتباعدة.. في لحظات مرقت كحلم سخيف، طوقت بكوكبة من الحرس النشط، تبرق أعينها بومضات اضطراب مغلف بالدهشة، والفضول، وهي تحاصر باحكام رهط المذنبين، وقد احضروا خافضي الرؤوس من فرط التوجس.. مكتب قائد الوحدة، وأنا علي رأسه أمد رقبتي بشموخ مفتعل، لم أعهده في نفسي من قبل.. تحقيق شامل يعقبه أوامر مؤقتة بالحبس والغرامة، وأخري مستديمة.. ثم تصديق من القائد الأعلي بعد ابلاغ القائد المباشر بالواقعة.. واقعة!!.. أية واقعة يا سيدي.. بيني وبين نفسي أري أنها، اما فيضا من مبالغات، تضافرت - بفعل عوامل نفسية بالغة التعقيد - في اتجاه صاعد من الأدني إلي الأعلي.. في محاولة لا ارادية لانتشال النفس من وهدة الاحباط الذي ولده خدر الغفوة، والنشوة المبتورة، ولا أجد نعتا لها أبلغ من عبارة »المقاومة الحميدة« أو هي علي أحسن تقدير - وفيما لو صدق حدسي - محاولة عامدة لإحداث فرقعة تهز المنطقة، لفض ستر الغموض الجاِثم.. دون النظر لأية عواقب تحل بعدها.. نوع من المقامرة يدعي »بالمقاومة اليائسة«.. أية واقعة منهما، يا سيدي يمكن الركون إليها، وسخافات منتقاة بدقة من عناصر التحقيق الشفوي كانت كافية لشطبها بالكامل من سجلات الذاكرة: - ما هذا.. حاميها حراميها!! بداية ما أتذكره - أين السرقة هنا.. الأمر في حكم الصيد.. »اقتباس ساذج من لهجة زعيم شعبي« - صيد من مال معروف؟! »حنكة قائد فرضها المأزق« - أين هو صاحبه.. بل أين حارسه.. وما اسمه؟!.. »سفسطة تجوز علي غيرنا« صرخت بغضب: - الولد وهدان.. أحدث نفسي هذه المرة - أين هو؟!.. لم أره من لحظة صحياني.. يرد أحدهم بحذر: - لقد لحق بأهله.. فهم الفولة من أولها.. أدرك أنها الحرب.. ولن تبق »التمهيد لوشاية« - من أفهمه؟!.. »استدراج من قائد محنك« - الحقيقة.. الحقيقة.. سيادتك - تعلن عن نفسها دون عون، وقد فهمناها من شرح مفتي الوحدة - الشيخ محمود عسران لوقائع الحرب القادمة.. نعم هي علي الأبواب.. القادة فقط يتجاهلونها.. لكننا نحسها. »الوشاية بعينها« آخر يؤكد: - الشيخ عسران قال إنها لن تبق، ونقلها أقدمنا عريف »السيد زكي« لوهدان فهرب بجلده، وعليه فقد أحل لنا الحرث والزرع.. قال نحن أولي به من الأعداء.. »تنصل من المسئولية بتقديم كبش فداء يتميز بالإقدام، وعدم تقدير العواقب برغم الغطاء الشرعي المحكم. بلغ السيل الزبي.. صدح أمري بنفاذ صبر: - نادي علي الشيخ عسران.. بتلقائية عمياء، ردد الحرس النداء.. - رقيب محمود عسران.. تقدم.. أحضر عسران وبيده علبة فارغة زعم أنها »مكيال عدل« يوزع به محتويات »زلعة سمن«، وبعض من تمر نخيل مجفف، من غنائم المنطقة التي هجرها أهلها.. علي بعض من جنود الوحدة الجائعين.. فيض من غرابة يجرف النفس المتطيرة بدفعات شريرة لا تعرف الرحمة، إلي منحي لا أعرف مداه.. مرقت بخاطري باقي الغنائم، التي مازالت تمرح بأرض الله الواسعة، ولم تطالها أيديهم.. تيقنت من جنون الفتوي.. العقوبة قد لا تطاول قامتها.. إلا أنها خرجت عن مألوف أوامرنا المؤقتة بما يقارب لوثة، بنظر القادة المحنكين: - الجميع ثابت.. الحبس شهر لكل من رقيب »محمود عسران«.. وعريف »السيد زكي«، وغرامة خمسة جنيهات لكل منهما علي سبيل التعويض عن البط المذبوح.. باقي المذنبين حبس أسبوعين.. برغم الاضطراب الظاهر، ردد الحرس بصوت جهوري: - علم وينفذ.. الله الوطن بالأمر.. بصوت خرج بالكاد من أعماق بائسة، مصحوبا بتلويحة كف طاردة: - انصراف صرت - بعدها - وحدي، وأنا في كامل الذهول. -3- تبقي الأوامر المستديمة، القنديل المضيء، لوقائع اليوم الغريب.. وهاك هي: في البدء: ينتقل علي الفور »جركني« المياه العذبة من علي قارعة الطريق، لموقع الخص الذي تم انتخابه كحمام ميداني.. »دروة لمهام طهارة حقيقية.. خصوصية لا يهم فيها الخفاء«. علي نحو لاحق: سرعة انتشار الحرس للبحث عن »وهدان«، وإعادته للموقع، لمباشرة أعمال الرعي والحراسة.. »تكليف بمهمة تحت رعاية الوحدة وحمايتها«. وبصفة يومية: تعيين خدمة مستديمة من جنود الوحدة للقيام علي شئون متروكات المهاجرين، لحين عودة ابنهم »وهدان« وتسليمها له بمحضر رسمي أيا كانت صفته أو سنة.. علم.. ترفع للقائد الأعلي للتصديق من أصعب المهام ابلاغ القائد المباشر، بوقائع خرقاء.. إلا أن جرأة الأوامر المستديمة الصادرة من المقدم »رأفت فياض«، وسرعة التصديق عليها، خير دليل علي المكانة الحقيقية التي يتبوأها بقلب قائده الأعلي.. ثقة وحب يطاول حد العشق المتبادل، بالرغم من ميله الشديد للمرح، الذي يبلغ أحيانا حد الهزل، وما كان يثيره من غضب البعض.. وحدة النعوت التي أطلقها عليه معشوقه - القائد الأعلي - وتسربت من محيط القيادة العليا وشاعت بيننا.. حتي أنه قد وصلت لأسماعه اسمه المعدل »رأفت هياض« بدلا من »فياض«.. وعلي نحو لاحق »القائد المسخرة« بدلا من الاسم الكودي لموقعنا »قائد القنطرة«.. الأغرب أنه كان يسعد لسماعها، ويعدها مؤشرا من مؤشرات الود، والشهرة التي لا غني عنها، ويأتي من الهزل ما يؤكدها.. إلا أنه كان يملك ذكاء حادا، وموهبة حقيقية، لا تخفي علي بصائر القادة، وحضورا فائقا يشد قلوب العامة بخيوط من حرير. أما الهيبة التي تشيع في أرجاء الوجه المرح، فقد كانت - وحدها - كافية لوقف أي تجاوز عند قيامه بمهام عمله.. وقد لا أنسي ما حييت مأزق استنفاري لمنطقة حساسة بالجبهة، بنداء »حرس السلاح« الذي وقعت فيه، دون تدبر.. كيف اتخذه مادة للتلاعب بأعصابي المستثارة!! أو عز لي بجدية أقنعتني، أن الواقعة - في لحظتها - مرقت كسهم شارد، إلي أن استقرت بدوي مزعج علي مكتب وزير الدفاع نفسه، الذي أدهشه ما وقع، وطلب من فوره - تقريرا سريعا بها.. وأن ذا أوقع القيادة فيما يشبه دوار »الحيص بيص«، وترتب عليه إعادة حسابات أمنية خطيرة بتكاليف باهظة.. أنا وهو، وضميره الذي لا ينام من شدة الحيرة والتأثر نعلم تمام العلم أنها حسابات بنيت علي غير أساس، والمسألة - شأن النكسة - لن تمر بسهولة، قد تضيع فيها رؤوس.. وترك لي مهلة التفكير معه في مخرج بأقل الخسائر، وذلك بايداع تقرير مشترك يعترف بالحقيقة.. كل ذا حدث قبل أن يفاجئني بأنه قد أودع منذ البداية مخرجا من صنعه، يستحيل توقعه، لأنه لم يتغاض كليا عن الحقيقة.. قلب المأزق بنظر القادة، إلي ميزة تحمد لنا عن يقظة الوحدة، وقادتها مما يستحق المكافأة.. وأرسل لي مع خبرة الفذ قبلة تهنئة مسبقة بنوط، وترقية استثنائية لشخصي في طريقها للتصديق، بعد زوال الغمة، التي لم يفصح عنها في حينه، وإن ألمح لها لاحقا باشارة لاسلكية مرحة: - إصحي لي يا ضابط.. لن أتركك بعد في حالك.. ولا تسلم الجرة في كل مرة.. ثم.. ثم... صمت لاسلكي.. غير مريح.. دفقات صاخبة من دعابات غير مريحة.. لا تنتهي.. وأيضا لا تضر.. يكفي ما فيها من حيوية، وابداع، وحياة.. هل هي تعبير عن قلق كامن، لا يفصح عن وجهته؟!.. صراحة، هل كنت في حاجة لاعتذار منه، يجب مكافأته المعلنة، ويهدهد الجرح؟!.. يقيني أني لم أكن أبغي كل ذا.. بل قل أنها محاولة للفهم، ليس إلا.. فقد كنا نحبه قدر ما يحبنا ولا نفصح يكفي مواقفه الجادة التي أعلت من شأننا.. حتي في أحرج المواقف، وأن حرصي واجب، لأنه يدخر لي الكثير من الهزل، وهناك ما يجري.. أسدلت ستاراً علي أحداث يومي، التي مرقت كسهم شارد، كما أسماها القائد »رأفت فياض« ولا أدري كيف استقر الحال علي هذا الوجه الغريب.. برغم الفعلة والنوم.. وبقايا اللذة المسروقة من آلام البدن.. مر المأزق علي خير، ولم نصب بأذي.. فقط النية الحسنة، وبركة دعاء الوالدين.. ألا يستحق كل ذا طهارة، وركعتي شكر.. أرسلها خالصة لوجه الله.. يممت شطر الخص بكل همة.. لكي أطمس ما تبقي من آلام الجرح الذي أحدثه دعابات القائد المحبوب.. لم أجد للخص سقفاً.. بل مجرد حوائط مفتوحة علي فضاء لا تظله شجرة.. الأبواب والنوافذ وعروق السقف الخشبية سحبها أحدهم، وفرش باستواء قاع الباحة والحجرات بحصر البوص وناتج الهدم.. التي كانت تعلو العروق.. وسدت الجراكن علي أحد حصر البوص المخلوع.. بدأت أول طقوس الطهارة بخلع ملابسي كما ولدتني أمي.. قلت في نفسي - وأنا أتطلع لزرقة سماء صافية مفتوحة - »نية جادة من القلب تسافر للسماء بلا حجاب«. أثناء غسلي، أحسست بتنميل يدغدغ ساقي.. بدءا من القدمين، صاعدا صعودا حثيثا لأعلي حتي الفخذين.. ثم أعلي حتي موضع العورة والمؤخرة.. في البدء ظننته نوعا من اضطراب الدورة الدموية، وتقلص الشرايين، ناتج عن حركاتي العجلة.. ولم أول الأمر اهتماما يذكر، لرغبتي الشديدة في أن أفرغ سريعاً، قبل أن تدهمني مفاجئة ليست في الحسبان.. إلا أن التنميل انقلب إلي قرص، مما اضطرني لأن انحدر بنظري كي أعاين موضع الوخز.. أدهشني أن أجد ساقي، وفخذي قد طليا بسواد غريب مرسوم علي شكل تجاعيد موجات غمامة متحركة، ظننتها بعض من ذرات السناج المعلق بحصر البوص، التي كانت تغطي السقف، والذي تراكم - من زمن - بفعل وقود الحطب والروث، مما يستعمله أهل القرية، وقد نثرته دبدبة الأقدام العجلة.. إلا أني لدي محاولتي إزالة عمامة الطلاء، بالماء والصابون، شاهدت بعض الذرات تنحدر قفزاً، ولا تذوب في الماء.. لتخلي مساحة محدودة من جلدي الملوث.. وذارت أخري تعاود الصعود لتبادل المواقع.. بالتأمل الدقيق وجدتها نوعا من البراغيث الدقيقة - وليست ذرات سناج - تتنافس بكثافة غريبة في الصعود لتغطية باقي الجسد.. من شدة تطيري ظننت أن شيطانا يلاحقني باصرار.. وقد حل بالمكان علي رائحة النجس، موطنه المحبب.. أصابتني لوثة مفاجئة.. لم أكذب خبراً.. في ومضة لا أعرف كيف حلت، ولا كيف ذهب العقل!!.. وجدتني علي قارعة الطريق، أعدو مذعورا - عاريا كما ولدتني أمي - باتجاه ترعة المياه العذبة.. ثم أقذف بنفسي فيها.. بلا روية.. أغطس برأسي كاملا.. ثم أعاود الظهور - بعدها يلحظات - في دورات مائلة فاقدة الاتزان.. أحدثت صخبا.. وسدت أذني بالماء الذي تسرب لثقبيهما وأحدث طنينا مؤلما، حتي أني لم أتنبه لصوت موتور »الجيب«، التي حلت بالمكان وتوقفت - بالتمام- باتجاه رأسي الذي كان يتطوح في خبل، إلا بعد مدة، لم أدرك مداها.. المدهش أن الراكبين ظلوا يتأملون ما أفعله، وكأن علي رؤوسهم الطير.. ثم.. ثم، برقت من بينهم ابتسامة وجه لم اتوقعه، باضاءة مكر، أصابتني بالشلل التام.. كانت ابتسامة قائدي الهازل »رأفت فياض«: - ما هذا يا ضابط!!.. ألم تبلغك اشارتي من لحظات؟!.. هل نسيت بهذه السرعة تنبيهاتي لك بالحذر.. وأني لن أترك لك الحبل علي الغارب، لكي تفضحنا بنداء آخر لحرس السلاح.. ما هذا يا ضابط يا نمرة؟!.. برغم ما قلته لك.. تترك وحدتك في مثل هذه الأوقات العصيبة، لكي تلعب في ماء الترعة كالأطفال.. علي كل هناك ما عندي.. لقد حلت الغمة علي رأسنا، ورأس من خلفونا.. أرني كيف تفعل!!.. تقول لي ما هي الغمة؟!.. أقول لك ذنبك علي جنبك.. لماذا لم تحضر معنا من أول البيان حتي تعرف!!.. يوم الامتحان يكرم المرء أو يهان، يا شاطر..