د. مبروك عطية فمثل هذا الحدث العظيم يعظم ظرفه الذي تضمنه، فالمظروف أعظم ما لدينا، ومن ثم كان ظرفه شهر رمضان أعظم الشهور. من أين استمد رمضان مكانته؟ السبت: شهر رمضان شهر كريم مبارك، رغم أنف من شهده، ولم يخرج منه، وقد غفرت جميع ذنوبه، قال عليه الصلاة والسلام: من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ولكن من أين استمد رمضان قيمته العالية، ومنزلته العظيمة؟ والجواب أن رمضان استمد مكانته من الحدث الكبير الذي حدث فيه، وهو نزول القرآن الكريم فيه، قال ربنا تعالي:«شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس وبينات من الهدي والفرقان»، وذلك لأن الشهر رمضان، أو غيره ظرف زمان، والظرف يستمد مكانته من المظروف الذي يحتويه، فإن كان المظروف عظيا ذا شأن كان ظرفه عظيما ذا شأن أيضا، وإن كان الظرف عاديا، لا يلفت الأنظار شكله، ولونه، وخامته ومادته التي صنع منها، وإن كان المظروف الذي يحتويه الظرف تافها، غير ذي قيمة كان الظرف كذلك، وإن بدا للناظرين شكله فخما، ومادته غالية نادرة الوجود، فالعبرة بالمظروف، تصور أن ظرفا رديئا شكله به شيك بمليون جنيه، ألا تراه في عينك أعظم مظروف! إنك قد تقبله، وتضعه فوق رأسك إكراما وإجلالا، لما بداخله من مبلغ محترم، وقد يسألك جاهل بتلك الحقيقة، وهذا المعني، فيقول لك: علام هذه الحفاوة بظرف متواضع، وإذا بك تجيبه قائلا: لأنك لا تعلم ما فيه، وقد يكون بين يديك ظرف في قمة الشياكة، يلفت الأنظار رقته، وخامة مادته، ولكن بداخله عشرة جنيهات، مبلغ لا يحقق لك مصلحة، فهل تحتفي به احتفاءك بالظرف الأول؟ والجواب: لا، وهكذا الحال في رمضان، بل وفي كل ظروف الزمان، والمكان أيضا، تستمد مكانتها من الحدث الذي يقع فيها، وما من حدث أجل وأعظم من نزول القرآن الكريم علي قلب سيدنا محمد - صلي الله عليه وسلم - وهو كلام الله الذي يبين مراده منا معشر المؤمنين به، كيف نعبده؟ وكيف نعرف السبيل إلي رضاه؟ وكيف نتعامل في هذه الحياة مع الناس، والأنعام والدواب، وهو القول الفصل الذي ليس بالهزل، لا ريب فيه، ولا عوج، يهدي للتي أقوم، ويهدي إلي صراط الله المستقيم، فيه سنة من قبلنا، ولن نجد لسنة الله تبديلا، ولن نجد لسنة الله تحويلا، تلاوته عبادة، وعلي كل حرف نتلوه حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم، وتدبره يثمر معطيات جلية من الحكمة التي لولاه لكانت خفية، وبتدبره صارت جلية، ولا يبلي مع كثرة التكرار، ولا ينضب معينه، ولا تنتهي غرائبه، صلي رجل بولده أياما إماما، وكان يقرأ بعد فاتحة الكتاب بآية، لا يتجاوز غيرها، فانتبه لذلك ولده، وقال: يا أبت ألا تحفظ غير هذه الآية؟، فقال أبوه: كم مرة سمعتها مني يا ولدي؟ قال: أكثر من مائة مرة؛ فقال أبوه: والله ما قرأتها في مرة من هذه المرات إلا استحضرت لها معني جديدا، ألوف من التفاسير قامت علي كتاب الله، وفي كل تفسير من الجديد ما لا يمكن تصوره لو قامت تلك الأعمال علي كتاب من تأليف مبدع ممن أوتي نواصي الكلمة، وملك زمامها، وأفني عمره في تهذيبها، وتنقيحها، من قرأه بغية الدنيا وعمل بمقتضي تلاوته فقد حيزت له صاغرة، غير عنيدة أو مكابرة، ومن قرأه بغية الآخرة، وعمل بمقتضي ما قرأ ضمنت له الجنة بظلالها الوارفة، وأنهارها الجارية المتعددة، وحورها المقصورات في الخيام، وما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر علي قلب بشر مما أعده الله من نعيم، وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يفرح بنزول القرآن عليه، وتعدي فرحه إلي قلوب أصحابه، وحين بكت أم أيمن رضي الله عنها يوم زارها الصديق والفاروق رضي الله عنهما، ظناها تبكي لوداع رسول الله حزنا عليه، فقالا لها : لا تبك يا أم أيمن؛ فما عند الله لرسوله خير من الدنيا وما فيها؛ فقالت: والله ما أبكي لجهلي بذلك، قالا: فلم تبكين؟ قالت: إنما أبكي لانقطاع الوحي، وكأنها كانت تود أن يظل الوحي موصولا بالأرض، تتهادي آياته علي قلوب المؤمنين، كما يتهادي الندي علي وجه الزهر في صباح بلا غيم، وما جلس قوم من أجله يتلونه حق تلاوته، ويتدارسونه فيما بينهم إلا غشيتهم رحمة، وتنزلت عليهم السكينة، وحضرتهم الملائكة يستمعون إليهم، ويستغفرون لهم، فمثل هذا الحدث العظيم يعظم ظرفه الذي تضمنه، فالمظروف أعظم ما لدينا، ومن ثم كان ظرفه شهر رمضان أعظم الشهور. هكذا قال الفاروق الأحد: وثبت عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: إني لأنظر إلي الشاب يعجبني منظره، وتأخذني قوته، فأسأل عن حرفته، فإذا وجدته غير ذي حرفة سقط من نظري، وهذا يثبت ما قلته في رمضان، الذي يعجبنا أيامه، ولياليه، وهو مثل ذلك الشاب الذي أعجب به الفاروق رضي الله عنه، لكنه ذو حرفة، وحرفته أنه ظرف حوي نزول الكتاب العزيز، الذي من الله بنا علينا معجزة خالدة لنبينا صلي الله عليه وسلم، وهذا الدرس لو تعلمه المسلمون، وعلموه بناتهم لما اختارت بنت شابا فتيا وسيما لمجرد شكله، ولو كان غير ذي حرفة، فتعمل هي، ورتع في دخلها هو، ثم انظر ماذا يقول الناس، وماذا تقول المبتلية التي أصابت بتلك البلوي نفسها، وأهلها، يقولون وهي قبلهم: يا ليت هذا يعجبه، ويا ليته يسمعها كلمة طيبة، كأنهم راضون بشقائها وراحته، وعنائها وسعادته، فقط كل ما يريدونه منه، أن يعجبه سعيها، وأن يتحفها برضاه، وهذا خلل في الفكر، وتغيير لخلق الله عز وجل الذي أوجب النفقة علي الرجل، ومكن المرأة من بيت تقيم فيه، في ظل حياة كريمة، لا بؤس فيها، ولا حاجة، ولا ذل فيها، ولا هوان، إن بعض هؤلاء الفاسدين يلتهم خيرات زوجته، ويجلدها كما يجلد العبد، ويضربها كما يضرب اللص الشرس الذي جاء يسرق متاعنا، وأموالنا، وقد جاء رجل يسأل النبي صلي الله عليه وسلم، فقال: أرأيت لو أن رجلا أراد أن يأخذ مالي؟ قال عليه الصلاة والسلام: لا تعطه مالك، قال: أرأيت لو قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت لو قتلني؟ قال: أنت في الجنة، من قتل دون ماله فهو شهيد، قال: أرأيت لو قتلته؟ قال: هو في النار، وهذا الوغد يقاتل امرأته كما أمر هذا الرجل وكل مسلم أن يقاتل من أصر علي أخذ ماله، فهل يري امرأته سارقة أمواله، وهو الذي لا مال له، إنها صاحبة الفضل عليه، وربما كانت كذلك صاحبة فضل علي أهله كذلك معه، لكنه لا يعترف بفضل، ولا يشكر لجهد، وكأنه علي يقين أن رأس ماله وسامته، وكل رصيده كما تقول والدته لها: إن ألف بنت تتمناه، وعليها أن تحمد الله ربها الذي أنعم عليها بأن وقع عليها اختياره، دون غيرها من الصبايا الحسيبات النسيبات اللاتي كدن يمتن عليه، وكم حاولن، وبذلن، وسعين، علي أي شيء يا سيدتي كانت الصبايا تتهافت علي ابن بطنك؟ أهو العلامة المكتشف؟ أهو المهندس العبقري؟ أهو الطبيب الحاذق الماهر؟ أهو التاجر الصدوق الرابحة تجارته عند الناس، وعند الله عز وجل؟ والجواب وإن عرجت يمنة ويسرة، ونحوت جهة اليمين أو جهة الشمال أن السبب شكله الوسيم، وأنه ملء العين، تلك العين التي كاد ضوؤها يغور في هم وغم وشقاء، من أجل الحصول علي لقمة العيش، ولو كانت لك البنية متشبعة بفكر عمر رضي الله عنه سقط مثل هذا الوسيم من نظرها بمجرد أن تعلم أن كل رأس ماله شكله، وربما أدي به هذا السقوط من نظرها، ونظر غيرها سببا في أن يلم حقيقة أمره، فينهض ويعمل، ويصبح ذا قيمة تضاف إلي وسامته، فيكون الحصول عليه جمعا بين الحسنيين، المعني والشكل، والمعني مقدم علي الشكل، وأهم منه، لأن به يكون بناء الفرد، وبناء الأسرة، وبناء المجتمع كله. يا عيون روحية الإثنين: كانت روحية جارة لأمي عليهما رحمة الله عز وجل، وكانت حسناء إلي درجة أنها كانت مضرب المثل في الجمال، فكلما ادعت فتاة أنها جميلة، قيل لها: تقوليش روحية، والا إيه! وكانت متزوجة برجل ليس فيه من حسن الشكل رائحة، فتستطيع أن تقول مطمئنا: كان دميم الخلقة، وكان هذا الزوج كلما ناداها بصوته البشع يقول: يا بت يا روحية؛ فتجيبه بقولها: يا عيون روحية، فما السر وراء تلك الإجابة التي لم تتغير يوما طيلة أربعين سنة؟. لقد كان هذا الرجل فلاحا من الطراز الأول، وإذا كانت زوجته ضرب بها المثل في الحسن قد كان هو مضرب المثل في الفلاحة، ماهر طواف بزرعه، الذي لم تخب له زرعة واحدة، ولم ينقص محصول واحد عن عادته، بل كان يزداد، لم يعرف غير الطريق من داره إلي حقله، والعكس، لم يكن صاحب شهوة للجلوس مع الجالسين، ولا في الخوض مع الخائضين، وحين رزق بابنته الكبري قال لأمها يوم سبوعها: جهزيها من بكرة، وكان يعزل لها مصروفا خاصا، بجانب مصروف أمها، يقول: هذا لك، وهذا لجهاز البنت، فلما شبت، وصارت شابة، وجاء يوم عرسها أخرجت أمها ما ادخرته في سنين، فكان شيئا كثيرا عجبا، نظرت إليه كأنها لأول مرة تراه، وقالت لابنتها: انظري إلي حصاد السنين، وإلي عقل أبيك الذي تفكر فأحسن، لقد جهزك كبنات الذوات، ولم ينسك حتي يأتي هذا اليوم، فيشعر بأنك سبب إرهاقه، ويستدين كما استدان غيره، ونغرق حيث لا منقذ من غرق إلا رحمة الله الذي أمرنا بإعمال عقولنا، كانت روحية تقول عندما تسأل عن حالها من أحد والديها أو من إخوتها: عندنا كل حاجة، الله يطول في عمره مش مخلينا ناقصين حاجة، وذات يوم وجدت صاحبة لها تلح علي زوجها في طلب شيء ما من طلبات البيت؛ فاسترجعت روحية، قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون! كيف تطلبين شيئا من أشياء البيت الذي فيه رجل، هو ينبغي عليه ان يعرف وحده، وأن يأتي بالمطلوب وحده قبل أن تسأليه، فقالت صاحبتها: ما تبصيش لنفسك يا روحية، مش كل الرجالة زي راجلك، ولا كل الأزواج مثل زوجك، وكانت هذه الصاحبة، بل كانت القرية بما فيها تعلم أن زوج روحية لا ينتظر أن تطلب زوجته شيئا، بل كان يأتي بالمطلوب، وغيره، حتي لا ينقصها شيء، وقد عرفت روحية أنها في نعمة، لما تراه من حالات الناس، فالممتاز من الناس هو الذي إذا سئل أعطي، أما أن يكون هناك في القرية رجل يعطي قبل أن يسأل فذا لم تعرفه إلا في زوجها الذي ما كانت تجيبه كلما ناداها إلا بيا عيون روحية، فإن لم يكن عينيها فمن ذا الذي يكون!.