د. مبروك عطية عشت في زمان يصبح الغضب فيه ممتدا إلي سنوات وإلي أجيال بل يتحول إلي ميراث بغيض. السبت: لو أن إنسانا بني بيتا وجعل له أبوابا محكمة، ونوافذ متعددة، ثم نظر فوجد كل هذه الأبواب، والنوافذ تدخل عليه وابلا من الرصاص يحاول قدر طاقته أن يبتعد عنها ولا يستطيع أن يعيش هكذا في مأمن عنها إلا بعض سويعات يتوقف فيها ضرب النار فالحل السريع أن يترك هذا البيت، وأن يعيش في مكان آخر، يأمن فيه علي حياته، ومثل هذا الإنسان الذي يعيش وهو يشك في كل من حوله، لا لمرض فيه، وإنما لحقيقة يواجهها ولا يستطيع دفعها فكل واحد حوله تثار فيه الشكوك، فخادمه مثلا كان لصا، ثم تاب؛ فهو موضع شك؛ لأنه من الجائز أن تكون توبته غير نصوح، وأنه عاد لصا كما كان أو أخطر مما كان، وصديقه موضع شك؛ لأنه سأله قرضا حسنا واعتذر له؛ لكنه لم يصدق، حتي ضيفه الذي زاره، وأكل عنده لقمة شهية موضع شك كذلك فقد كان يبحلق في البيت وتدور عينه كما تدور الكاميرا الخفية وكأنه يرصد مداخل البيت التي من بعضها يمكن أن يتسلق ويسرق، حتي زوجته موضع شك؛ لأنها كانت تطلب منه الكثير وهو يعتذر، ولكنها لا تصدق، لا أحد بريء من توجه الشك إليه؛ فلا أحد ممن حوله يراه علي يقين من أمره، يؤمن بشخصه، ويصدق كلمته، ويقبل اعتذاره، إنما الجميع يعاملونه وفق أمراضهم النفسية، وهواهم الفاسد، حتي في لحظات فرحه النادرة يري فرحهم تمثيليا مصنوعا، وليس خارجا من صميم قلوبهم، ولذا تبدو وجوههم في تلك اللحظة كالحجر الذي كساه الرماد، فأصابه المطر فأزاح ما عليه، وكشف حقيقته، وكما انزاح الرماد فجأة انطفأت الفرحة كذلك فجأة من فوق وجههم، والفرحة الأصيلة النابعة من سويداء القلوب لا تنطفئ فجأة، وإنما تبقي، كما يبقي أثر المطر، يرحل المطر ويبقي أثره أرضا مخضره، ونباتات مزهرة، وحبات من نداه متناثرة هنا وهناك، حتي وإن جفت تلك القطرات تبقي مواضعها أفقا مسفرا عن صفاء، لا عن كدر، تلك هي الفرحة الحقيقية التي يعرفها من له خبرة بها ثقافة واعية، أو خبرة حقيقية، قلما وجدنا تلك الفرحة في وجوه من حولنا التي ربما تجملت إن كانت فالنساء يضعن طبقات من الدهون فوق وجوههن يخفين بها طبقات جلدهن الحقيقي، وأهم ما يخفين بها تلك الفرحة الزائفة التي تتراقص أمواجها فوق الزينة، وسرعان ما تذهب، كذبت الذي يذهب جفاء، فلا يبقي طويلا، ولا يعمر كثيرا، واللبيب من يعرف زيف هذه الفرحة بالنظر إلي العيون التي لا تدخل الزينة داخلها، وإن تزاحمت الألوان حولها، أشدت المسكرة كما تشد التندة فوق المحل التجاري تقي بابه من وهج الشمس في الصيف والمار بالطريق لا يري إلا التندة، وزينتها، بينما الراغب في شراء شيء من المحل ينظر من تحت التندة ليبصر حاجته إن كانت موجودة أو لا، والباحث عن الفرحة الحقيقية لا ينظر في المسكرة، وإنما ينظر تحتها فإذا به يكتشف ما كان يود خلافه؛ لذلك أقول: مسكين من لم يكن في حياته إنسان لا يتسرب إليه الشك، ومنعم عليه ذلك الإنسان الذي يكون في حياته أحد يكون مرآة في حياته يؤمن به ويحلف من بعيد علي صدقه كما قال الصديق أبو بكر رضي الله عنه حين بلغه نبأ الإسراء والمعراج قال: إن كان قد قال فقد صدق وكما أراد أن يشهد ولم يكن حاضرا ذلك الرجل الذي جعل النبي صلي الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين وهو خذيمة بن ثابت فقد قال له النبي صلي الله عليه وسلم كيف تشهد ولم تكن معنا؟ فقال: أشهد بصدقك يا رسول الله، والقصة أن النبي صلي الله عليه وسلم اشتري فرسا من رجل علي أن يسلمه ثمنه عندما يصلون إلي المدينة، وكانوا في طريق السفر، فجاء أحد المنافقين، وعرض علي الرجل ثمنا أكبر من الذي اتفق عليه مع النبي صلي الله عليه وسلم؛ فباعه إياه؛ فقال له النبي صلي الله عليه وسلم كيف تبيعه وقد اشتريته منك؟ فقال الرجل للنبي صلي الله عليه وسلم هل معك من شاهد؟ ولم يكن هنالك شاهد؛ فتقدم خزيمة بن ثابت أنا الشاهد فقال عليه الصلاة والسلام كيف تشهد ولم تكن معنا؟ قال أشهد بصدقك يا رسول الله، ولم يقبل النبي صلي الله عليه وسلم أن يشهد خزيمة؛ هذا أري أن من نعم الله عز وجل ما لم يفكر فيه كثير من الناس تلك النعمة نعمة أن يكون في حياتك من يؤمن بك، من يكون مرآتك، من إذا تسرب الشك من صدرك إلي كل مكان لم يتسرب إليه ولن يتسرب أبدا، هذا الإنسان إذا وجد فبالدنيا وما فيها بالجاه والمنصب والمال الوفير الذي قد يكون وبالا علي صاحبه إذا اجتمع حوله من يتسرب الشك إليهم كما ذكرت في صدري. كانت إلي جوارنا فلاحة قديمة الأحد: كانت إلي جوارنا بقريتنا فلاحة قديمة وكان زوجها اسمه عبد العليم، كان عبد العليم رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب ولكنه كان من المصلين، يحضر الفجر في المسجد بعد نوم عميق لأنه لم يسهر الليل في عمل ولا زيارة يعود كما يعود الفلاحون من حقولهم مع غروب الشمس بمجرد أن يصلي العشاء ويتناول العشاء يطرح نفسه علي فراشه فيقوم قبل أذان الفجر يتجه إلي المسجد فيصلي ثم يعود إلي داره ليلتقط بعض اللقيمات ثم يذهب إلي حقله، وكما هي عادة الناس يتناقلون الأخبار ويذكرون الأسماء وفلان فعل وفلان لا يفعل وكان علي لسان هذه الجارة القديمة عبارة عبد العليم ميعملش كده أبدا، هذه العبارة كانت تطلقها في كل موضع يأتي الناس فيه بشيء مشين في عبد العليم فكانت تقول لا يفعل هذا أبدا، فكان كلما ذكر الناس عبد العليم بشر أو بسوء تقول في غيابه عبد العليم ميعملش كده أبدا والله وحده يعلم إن كان عبد العليم يعمل هذه العملة أو لا يعملها لكنه عندها لا يعمل هذا أبدا، تذكرني تلك العبارة برجل عاقل تخرج في الجامعة أيام كانت الجامعة جامعة وكان من دفعة الأربعينيات من القرن المنصرم وكان له صديق حميم جدا ذكر في غيبته بشيء من أقل ما يذكر به عبد العليم فرجع ورجع معه كرسيه وتدلت نظارته علي أنفه ووضع إصبعه السبابة تحت خده وقال (تصدق يعملها والله ما هي غريبة شك في صديق عمره وقال لمن نقل له أخبار غير موثقة بأن صديقه من الجائز أن يعمل هذه الشينة القبيحة) شتان ما بين فلاحة قديمة طهر قلبها فطهر لسانها فزكت زوجها وأقسمت من بعيد أنه لا يمكن أن يرتكب هذا الفعل القبيح وبين خريج الجامعة الذي قد يكون اليوم أستاذ جامعة وهو يقول في صديق عمره الذي خبره ممكن جدا يعملها. الإثنين: صحوت فجر الإثنين علي رجل نذر أن يصوم يوم الإثنين ووجدته وقد فرغنا من صلاة الفجر يرفع صوته إلي السماء ويدعي علي امرأة أرملة تربي يتامي، راعني هذا الدعاء عليها فدنوت منه وقلت له لقد صلينا الفجر ومقتضي صلاة الفجر أن ينشرح الصدر وأن ينسي الهم وأن تطوي صفحة الليل الكئيب وأن نبدأ يوما جديدا بلا دعاء علي أحد أنا أفهم أن تدعو لك وللناس لكن أن تصبح وبعد صلاة الفجر أن تدعو علي الناس فهذا أمر لا نفهمه فأخذ يشكو منها ويقول بالحرف الواحد لعنة الله عليها إنها تذكر زوجته بسوء يا أخي لقد قال الله تبارك وتعالي »يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا علي ما فعلتم نادمين» هي تذكر امرأتك بسوء تدعو أنت عليها فلتكن امرأتك هي الداعية ولتكن أنت العاقل الحكم بين اثنتين تقول لامرأتك لا تلفظي السوء ولا تخرجي الدعوة السيئة من فمك علي امرأه تسيئ إليك وربما أنت يا زوجتي الحبيبة السبب في إساءتها إليك، إليس هذا من المعقول والمنقول؟ الثلاثاء: لم يكن عندي ظل من شك في أن هذا الشاب الذي أساء لولده في لحظة غضب تطورت سوف يعود إليه آخر المساء، الحق أن الغضب بين الآباء والأبناء ينبغي ألا يلمس قلب الأب وألا يخدش ثوبه لقد أساء والد الشاب إلي أمه إساءة بالغة وكانت تقول إني يتيمة مع أنها أم لشاب ليس بالغلام الصغير ولها بنت متزوجة ولها أحفاد أي أنها جدة لكنه أساء إليها والولد يرق لأمه فتحامل علي أبيه وكان ما كان من أن الأب طرد الأم وطرد ولدها وقال قولته الشهيرة مفيش حد شريكي وأخذ الشاب والدته وانصرف وكنا متجاورين فصعدت علي سطح بيتي وأخذت أقلب في الكتب وأنظر متي سيعود الولد كنت علي يقين ولم يخطئ يقيني فقبل أن تغرب الشمس جاء الولد وأجلس أمه علي ناصية كان عليها ترزي بلدي معتبر من الذين راحوا وراحت معهم الخبرة الجميلة ووقف أمام البيت ونادي بهذه الحروف أدخل يابا ولا لأ، تمسمر كما يقول الفلاحون أي كأن هناك مسامير دقت رجليه علي عتبة الباب فلم يتحرك قيد أنملة، والأب عندما سمع كلمة أدخل يابا ولا لأ بكت عيناه واستدار إليه وقال تعالي، فقال والتي ادستها علي الناصية أأرجعها إلي بيت أهليها أم أأتي بها؟ فقال الأب يا بني أمك مالهاش حد غيرنا، فنادي أمه التي دخلت مع الغروب فطبخت وخبزت أقسم بالله وكانت ليلة من أسعد الليالي. الشاهد وراء هذه القصة أني أحمد الله أن عاثرت أناسا لم يكن الغضب بينهم يستمر إلي الصباح وأحمد الله الذي لا يحمد علي مكروه سواه أني عشت في زمان يصبح الغضب فيه ممتدا إلي سنوات وإلي أجيال بل يتحول إلي ميراث بغيض. خلعت رأسها ورفعت يديها الأربعاء: لم تزل هذه البدعة قائمة بأن تخلع المرأة رأسها وترفع يديها وتدعي علي من تظن أنه ظلمها وهي تعتقد أن دعاءها حاسرة الرأس مستجاب وتلك من الخيبة بمكان فإن الله تعالي لا يستجيب دعاء لمن تخلع رأسها وإنما يستجيب دعاء من تغطي شعرها وقد كان المشركون يطوفون حول البيت عرايا كما ولدتهم أمهاتهم وكانت علتهم في ذلك أنه لا يجوز أن يطوفوا بالبيت وهم يلبسون ثيابا عصوا الله فيها فلما جاءت سورة التوبة براءة أرسل بها النبي صلي الله عليه وسلم إليهم وأرسل إليهم أحدا من أقاربه وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبلغه بأن يطوف بعد هذا العام بالبيت عريانا وبطلت الحجة واستقام المسلمون علي ذلك ولكن لابد للطيف القادم من بعيد من أثر وهذا أثر من آثار الجاهلية تقول وهي في العادة فلاحة والله لأخلعن رأسي وأدعي عليك، تهدد بذلك من تظن بأنه ظلمها وفي ذلك شديد إبذال له وهي ليست علي ثواب. كفانا دعاء بعضنا علي بعض ولنحتسب جميعا عند الله خير أعمالنا لا نريد من غيره جزاء ولا شكورا. الخميس: اشتري رجل من الفلاحين القدامي جاموسة من سوق المواشي فلما عاد بها إلي داره اكتشف أنها عمياء ولم يكن يعرف من أي البلاد صاحبه فأحس لأقل من طرفة عين أنه قد خدع، أن هذا قدره مع أنه كان عليه أن يكتشف ما بها من عيب، الم يصرح بائعها جمع الرجل زوجته وأولاده وقال: اللهم إنا فقراء إليك وإلي رحمتك وإن كنا قد قصرنا فيما أوجبته علينا فجبر خاطرنا ونام الجميع وأفاقوا في الصباح علي جاموستهم مبصرة لا عيب فيها فقالوا: الحمد لله ولم ينشروا الخبر وعدوا ذلك من إجابة ربهم دعوتهم فما أجمل أن تدعو ربك وأبواب السماء مفتحة فإذا بكل غيم يمطر وإذا بكل قفر يثمر اللهم أجب دعاءنا، فرج همنا، نفس كربنا، استر أحوالنا، أجبر كسورنا كن لنا ولا تكن علينا. »اللهم وأعد إلينا عقولنا الغائبة وأعد إلينا قيامنا المغيمة، إنك الرب القوي الغفور سألناك وأنت يا ربنا بالإجابة جدير يا صاحب العزة ياذا الجلال والإكرام».