رغم أن عنوان كتابه "كيف يدمر الأثرياء الكوكب" يحمل نبرة يسارية واضحه، وأوصي الرئيس الإشتراكي هوجو شافيز في ديسمبر الماضي بقراءته، إلا أن الفرنسي "هرفي كيمف" لا يصنف نفسه إشتراكياً أو يسارياً وإن كان يقدم نفسه في الوقت ذاته بصفته معارض ومحارب ضد الرأسمالية العالمية ومنظومتها الإستهلاكية، لكن علي العكس من أطروحة الفكر اليساري فمعركة "كيمف" ضد الرأسمالية ليست بسبب ما تخلقه من علاقات إنتاج غير سوية أو من تفاوت في الأجور بل بسبب ما تشكله الرأسمالية من خطر علي استمرار الحياة علي الكوكب الذي نعيش عليه. لذلك فرغم تخصص "كيمف" في الصحافة البيئية إلا أن الندوة التي أقامها المجلس الأعلي للثقافة السبت قبل الماضي لمناقشة الكتاب الذي صدر مؤخراً عن المشروع القومي للترجمة بترجمة د.أنور مغيث لم تقتصر علي مناقشة المخاطر البيئية التي تهدد الحياة علي سطح "الأرض" بل تطرقت إلي الممارسات الرأسمالية التي تنتهجها أمريكا وأوروبا وكيف يمكن مواجهة هذه الممارسات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. حيث تحول النقاش من المجال البيئي إلي المجال السياسي، ربما لأنه ومثلما أوضح "كيمف" لا يمكن فصل الاثنان عن بعضهما البعض. بدأت ندوة المجلس التي شهدت حضوراً كثيفاً بتقديم لدكتور مجدي عبد الحافظ، الذي بدأ حديثه قائلاً "نحن في لحظة خطرة من تاريخ الإنسانية، فقد كنا نظن أن الطبيعة لا يمكن أن تنضب لكننا نعرف الآن أنها نظام مغلق ومواردها محدودة" ثم تحدث عبد الحافظ عن أبرز المشاكل البيئة التي يعاني منها الكوكب وأهمها ظاهرة التغيير المناخي، والأخطار التي تهدد التنوع البيئي والحيوي حيث شهدت العقود الأخيرة اختفاء الكثير من النباتات والحيوانات وانقراضها. أما هرفي كيمف فقد اختار أن يفسر ما سبق حيث أوضح خطأ الاعتقاد الشائع في قدرة الكوكب علي تصحيح نظامه. "لعقود طويلة كنا نظن أن المحيطات نظام ذو قدرة علي تدوير التلوث وإعادة التوازن إلي النظام الطبيعي، لكننا الآن نعرف أن المحيطات نظام هش، وأصيب بالتلوث مثله مثل اليابسة" ثم حاول كيمف تفسير كل هذه التغيرات البيئية حيث قال أن الأزمة ليست بيئية فقط بل في النظام السياسي والإجتماعي الذي نعيش فيه، فطبقاً لرأيه هناك "طغمه" رأسمالية تتحكم في هذا النظام وتقف ضد تصحيحه أوتغيره لأن التغيير قد يسحب منها مركزها. وأشار إلي أن التقارير الدولية في التسعينات كانت قد تحدثت عن انخفاض نسبة الفقر في العديد من الدول وعالمياً لكن وطبقاً لتقارير البنك الدولي فلقد توقف هذا الانخفاض وعاد الفقر ليظهر من جديد "علي كوكب الأرض يوجد حوالي 2 مليار من اخواتنا يعيشون علي 2 دولار في اليوم". يري هرفي أن النظام الرأسمالي وسع الفجوة بين الطبقات، كما أن نظام السوق يعتمد علي ازدياد الإستهلاك بالتالي يروج النظام الإجتماعي للكثير من السلوكيات الإستهلاكية، فالطبقة الغنية تنفق الكثير من الأموال علي شراء الماركات الفاخرة والسيارات الفارهه، وبسبب العولمة تحول هذا النمط من الحياة الإستهلاكية إلي نموذج يسعي الجميع لتقليده "أفقرنا في مدينة كالقاهرة يعرف كيف يعيش الأغنياء في لوس أنجلوس، وذلك من خلال التلفزيون وغيرها من وسائل الاتصال". مثل هذا السلوكيات في رأي هرفي هي الخطر الأكبر علي البيئة، ولأنقاذها يجب تغيير هذا النظام الاجتماعي، ولتغيير هذا النظام الاجتماعي يجب تحقيق المساواة في الدخول وتضييق الفجوة بين الطبقات الغنية والفقيرة. أما د.أنور مغيث فقد تتطرق إلي علاقة الأديان بالطبيعة/البيئة، والتي قسمها إلي بعدين البعد الأول أن الطبيعة هي أمانة تحت يد الإنسان ويجب أن يحافظ عليها وينميها لا أن يدمرها، وهناك بعد آخر هو أن الكون والنباتات والكائنات مُسخرة لخدمة الإنسان وبالتالي ليس لها معني دون وجود الإنسان. ومن الأديان انتقل إلي تعامل المدارس والمذاهب الفلسفية مع الطبيعة تحديداً مذهب الطبيعيين الرافض لمظاهرة المدنية والحداثة والمنادي بضرورة الرجوع إلي الطبيعة الأم، في مقابل أفكار الكثير من فلاسفة الحداثة التي كانت تري في الطبيعة وحش همجي يجب السيطرة عليه وتطويرة، لكنه وصف كل هذه الأفكار بأنها نظريات في الفراغ، ففي وقت كل هؤلاء الفلاسفة لم تعلن الطبيعة عن وجهها الآخر ولم تظهر المشاكل البيئية المتعددة التي نعاني منها الآن. في مواجهة المناخ اليساري الذي طغي علي حديث المشاركون في الندوة جاءت مداخلة د.عبد الفتاح الجمال لتثير جدلاً بين الحضور حيث دافع الجبالي عن الرأسمالية واقتصاد السوق المفتوح حيث قال أن الرأسمالية في الأساس تهدف إلي رفع مستوي الرفاهية مع الحفاظ علي حق أولادنا في المستقبل والحفاظ علي هذا الحق يتحقق بالحفاظ علي البيئة والبحث عن حلول للمشاكل التي تطرأ عليها، ولا يمكن أن يحدث هذا بغير الرأسمالية، وأضاف الجبالي "كل الدول والمجتمعات التي تتبع مؤشرات أقوي نحو سياسات تحرير السوق الاقتصادية هي أكثر الدول التي تحقق معدلات نمو أفضل وأقل الدول التي يحدث فيها وفيات للأطفال، وأكثر الدول حفاظاً علي البيئة". ورغم أن الجبالي اتفق مع هرفي علي وجود تدهور كبير في النظام البيئي علي كوكبنا لكنه اختلف معه في تحميل الصين والهند مسئولية تفاقم هذا التدهور، حيث يري كيمف في كتابه أن الصين لو حققت معدل نمو وصل إلي ما حققته اليابان بحيث يصل عدد أصحاب السيارات إلي ثلاثة أشخاص من كل أربعة فهذا سوف يؤدي إلي كارثة بيئية ضخمة، وقال الجبالي أنه لا يمكن معاقبة دول نامية بسبب سعيها إلي تحسين مستواها الاقتصادي بينما الكارثة الحقيقة تسببت فيها دول صناعية كبري. وانتقد الجبالي في مداخلته تعبير"الطغمة الحاكمة.. أغلقت القصر" حيث يري كيمف أن الطغمة الحاكمة والقابعة علي رأس النظام الرأسمالي تنحو يوماً بعد يوم بعيداً عن طريق الديمقراطية وفي اتجاه الفاشية، وهو ما اعتبره الجبالي قراءة خاطئة للمناخ السياسي والديمقراطي في العالم فالعقد الأخير تحديداً شهد كيف أن الثورة التكنولوجيا ساهمت في التسريع بالإصلاح الديمقراطي في الكثير من المجتمعات. واختتم د.عبد الفتاح الجبالي مداخلته قائلاً أن هناك تتطوراً كبيراً في الوعي بمخاطر البيئة، وعلي العكس من هيرفي فهو ليس متشائماً بل ينظر للأمر بقدر كبير من التفاؤل، وضرب مثالاً بالوضع في مصر حيث أصبح هناك تشديداً علي ضرورة مراعاة الشروط البيئية عند تنفيذ أي نوع من المشاريع التجارية أو الصناعية، وكمية الإنفاق علي تحسين أوضاع البيئة تزداد في الموازنة العامة المصرية من سنة إلي آخري. ورد هيرفي في نهاية الندوة علي انتقادات الجبالي قائلاً أن كتابه وأفكاره موجهه بالأساس لعالمه لأمريكا، وأوروبا وفرنسا "أقول لهم ببساطة نحن لا نحتاج لتنمية، أقول للفرنسيين أنتم لديكم ما تحتاجون من سيارات، وخطوط اتصال وطرق وكل ما تريدونه، لذا يجب إيقاف عجلة التنمية والبحث عن بدائل آخري، لأن عملية التنمية تحول في تلك الدولة إلي وسيلة لتراكم الأرباح واستنزاف موارد الكوكب"