تنزلني سيارة أجرة عند المدخل الرئيسي لمبني المعهد الألماني في ميونيخ، الذي يغرق في جو غابة كثيفة الأشجار وارفة الظلال، حيث سيعقد (مؤتمر قادة شباب الأرياف في العالم) فيصادفني في مدخل المعهد رجل وسيم نحيف الجسم، في الخمسينات من عمره..يستدير الرجل الأنيق نحوي منتبهاً إلي الضيف المشارك القادم من بلاد برّة، ومنتظراً أن أنطق بكلمة، فأقدم نفسي له، فيصافحني بحرارة، ويرحب بي قائلاً: »تفضل اتبعني«. ثم يحمل حقيبتي الكبيرة، ويسير أمامي، ليدلني علي غرفة إقامتي ونومي أثناء المؤتمر.. أسأل أحدَهم عنه بهمس فيقول لي: » إنه رئيس المؤتمر!« »الله أكبر! رئيس المؤتمر، ويحمل لي حقيبة أغراضي!« أركض خلفه: »أرجوك يا سيدي! صاحب الحقيبة أحق بحملها!« فيقول لي: أبداً، هذا واجب الضيافة..إنه واجب! ورغم تكرار رجاءاتي، إلا أنه يصر علي كرمه.. نصعد بالمصعد، فيوصلني إلي الطابق الثالث..ثم يتوجه أمامي وأنا أتبعه إلي غرفة قريبة، فيهجم خادم الطابق، ويأخذ الحقيبة من الرئيس، ويفتح الغرفة، ثم يضعها في الداخل، بينما يلتفت الرئيس إليّ وهو يقول: »هذه هي غرفتك، وأنت مُرحب بك. عمت مساء!« أُذهل لهذا التواضع الكبير! يدفعني فضولي للتعرف علي باقي أجزاء هذا المبني الضخم، المجهز بكل وسائل الراحة..غرف نوم عديدة في الطابق الثالث، وفي الطابق الثاني غرف محاضرات متعددة، وقاعة مؤتمرات كبيرة، وطابق أرضي، فيه مطعم كبير، وفي الأرضي بركة سباحة داخلية مدفأة، وحولها ساحات واسعة، وإلي جوارها مرقص للترفيه، ومقهي أو بار للسهرات المسائية، إذ أنهم لا يشربون القهوة، بقدر ما يشربون البيرة، وأما الإدارة، فتقع في مبني آخر مقابل. أستغرب كون الإدارة تُنزل كل مشارك في غرفة نوم منفصلة، وأما أنا العبد لله، فيضعونني في غرفة مشتركاً مع شاب إيرلندي قصير القامة، في الثلاثين من العمر، قال لي إن اسمه توني، ولم يقل لي إنه يحمل شهادة الثانوية العامة فقط، ولكنه قال إنه موعود بالعمل في إحدي منظمات الأمم المتحدة! من هو الذي وعده؟ ولماذا يعِدون ابن الثانوية، وليس أبناء الدكتوراه الذين يملأون الأرض، فأنت لا تعرف؟! لم تعجبني إقامته ونومه هذا، فأنا معتاد أن أنام في غرفة خاصة بي وحدي، ولكنني لم أعترض علي ذلك، فالضيف أسير المضيف، إلا أنني فهمت لاحقاً أن شابين إسرائيليين يشاركان في المؤتمر، قيل إنهما منذ وصولهما قد أبلغا أنهما نظراً لكونهما يهوديين مسكينين مُستضعفَين، فهما خائفان من كونهما مُستهدفَين من قِبل العرب الكثيرين، الذين يشاركون في المؤتمر؛ من مصر والعراق والمغرب ولبنان والأردن وتونس واليمن وغيرها.. قلت لمن أبلغني المعلومة: لا أفهم كيف يكونون مستضعفين، وقد سيطروا عسكرياً ونفسياً علي الأمة العربية، وذلك بدعم حلفاء الحرب العالمية الثانية مجتمعين، فاحتلوا معظم أرض فلسطين عام 1948، وبعد اجتياحهم باقي فلسطين، وأراضي شاسعة من بلاد العرب المحيطة بها عام1967، ها هم اليوم يجتاحون لبنان كلها، تحت اسم »سلام الجليل« ويدمرون المقاومة الفلسطينية هناك بسلام تام، بعد أن شرذموها مسبقاً بسلاماتهم، ويطحنون بسلام كل لبنان والسلام! لهذا صرت أشعر أن وجود توني في غرفتي لم يكن »لِلّه فلِلّه!« بل كان لرقابة أمنية! رقابة، رقابة! قلت في نفسي، فأنا لا أخفي شيئاً في حوزتي، ولا حتي في قلبي لأخاف عليه!ولكنني رُحت أقرأ لنفسي نفحات من شعر نزار قباني: حيث تلَفّتنا، وجدنا المخبر السري في انتظارنا.. ينكش في أوراقنا..يشرب من قهوتنا..ينام في فراشنا! في هذا المعهد الذي يدربنا علي تطوير قيادتنا لشباب الأرياف، يبدأ تنفيذ برنامج النشاطات الجماعية بانضباط تام، إذ تتم المحاضرات بإصغاء مطلق من قبل جميع الجنسيات، وشابة سوداء مجدولة الشعر المُلبّد من ليبيريا تنكش ما بين سنّيها بإظفرها الطويل، وتكرر النكش والنكش لإخراج شيء عالق بينهما.. يلفتني أن المحاضر الدكتور ألفونس يتحدث عن (توجيه شباب الأرياف للتأهل لمهن مختلفة، ليتخصص كل بمهنة مُحدّدة، سواء كان شاباً أو فتاة، فلا يشتت مهاراته.. مهنة حداد، نجار، بلاّط، مُزارع نباتات، مهنة خدمة مَزارع الحيوانات.. تركيب شبكات ري، وهناك مجال واسع للصيانة في الأرياف.. )، ثم يسأل للمتابعة وللاطمئنان علي المشاركة: »وإلا، ما رأيك يا شاؤول؟« يكرر السؤال لشاؤول أكثر من مرة.. وفي قضية أخري يغير السؤال فيقول: »وإلا ما رأيك يا أوشر؟« ونظراً لكثرة التكرار، حفظت اسم الإسرائيليين شاؤول، وأوشر، فقلت في نفسي:الماذا لا يهتم الدكتور ألفونس إلا بهذين الإسرائيليين، فلا يسأل غيرهما، كنوع من المشاركة مع المتلقين؟ هل مطلوب منه أن يُدلِّلهم، ليثبت لأجهزة تسجيل المحاضرات، ولعدسات التصوير، ثم للمخبرين أنه يتعاطف مع أبناء اليهود الذين اعتدي النازي عليهم، ليطلع درجة في وظيفته، أو ليُثبّت في عمله، فلا يُطرد منه علي الأقل؟! يا سيدي! فليسأل من يريد، وليستبعد من يريد! فلن نحصل علي الدكتوراة في هذه الدورة التدريبية! ينتهي نشاط اليوم، فنذهب زرافات ووحدانا إلي مطعم المعهد لتناول طعام الغداء.. ننتشر علي طاولات المطعم..بعض الشباب العرب والأفارقة بالذات يجمعون أكواماً من الأطعمة المعروضة في أطباقهم، ثم يتجهون إلي طاولات المطعم ليأكلوا، ثم يخرجون وقد ترك كل منهم نصف جبل مكوماً فوق طبق الطعام! أمتعضُ لمشاهدة بقايا الأطعمة التي ستُرمي في الزبالة! وبعد أسبوع طلبوا أن تقدم امرأة من جنسية مختلفة كل مساء طبيخ بلادها، فتطبخه بمواد يحضرها لها طباخو المعهد، بناء علي طلبها مسبقاً، بينما هم يساعدونها في تحضيره، حسب معلوماتها، فتقدمه معهم علي العشاء، وذلك بهدف تبادل المعرفة في أكلات جديدة، والأهم من هذا لكون تحضير الطعام هو نشاط من نشاطات شباب الأرياف؛ الشابات منهن بالتحديد. كانت معنا مهندستان عربيتان من مصر، في حوالي الثلاثين من العمر.. فقدمتا في ذلك العشاء طعام »المسقعة«..تأكل أصابعك وراءها! التَهم المشاركون- خاصة الغربيين منهم- هذا الطعام العربي اللذيذ خلال نصف ساعة، وكثيراً ما كانت الأطعمة المحضّرة بأيدي زميلات أخريات من جنسيات مختلفة تبقي كما هي، ولا يُستهلك منها سوي نصف المعروض، أقل أو أكثر، ولكن في تلك الأمسية المصرية، تم تنظيف الأطباق، فاشتُهرت الصبيتان، وارتفع علم مصر يومها عالياً! يجلس إلي جواري صديقي الألماني المهندس باتريك صاحب العينين الخضراوين والطول الفارع المعتدل الامتلاء، الذي استلطفته منذ بدء هذه النشاطات، فنأكل علي طاولة واحدة في مطعم المعهد، فأراقبه وهو يضع في صحنه كمية محدودة من الطعام، ولا ينهي طعامه حتي ينظف صحنه، فلا تبقي فيه ذرة طعام واحدة، فأقول له : »لماذا تنظف صحنك يا باتريك إلي آخر حبة أرز؟« فيقول لي بكل ثقة وهدوء: ( كي يجد فقراء العالم بعدنا طعاماً يأكلونه ياخليل..) أُدهش من فلسفة الطعام الألمانية، التي تطبق نظريتنا العربية الإسلامية القائلة: »الاقتصاد في النفقة نصف العيش!« وقول رسولنا الكريم: »اقتصد في الماء ولو كنت علي نهرٍ جارٍ.« وقوله: (فليملأ أحدكم ثلث معدته بالماء، وثلثها الآخر بالطعام، ويبقي الثلث الأخير للهواء) وقوله: »فليقم أحدكم عن المائدة، وما يزال له نفس في الطعام. »وقوله:« نحن قوم لا نأكل حتي نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع.« ولكننا ننتج النظريات، مجرد ثرثرة في الهواء، وهم يلتقطونها ويطبقونها! نحن نُبَذِّر مئات المليارات النفطية، وهم يقتصدون في حبة الأرز! نحن المالكون فقراء، وهم المقتصدون أغنياء!
تسكن في الغرفة المجاورة لي صبية سوداء من أواسط أفريقيا، مصقولة الوجه، معتدلة الطول، ممتلئة البطن والوركين بلا إفاضة، كانت مساء أمس تسهر معنا في مقهي المعهد، ونحن نتحدث في أمور شتي، ونتعرف علي عادات وتقاليد كل منا، فقالت إن اسمها أبيبة، وإن مهنتها في بلادها هي تعليم النساء الريفيات صناعة الأقنعة الأفريقية، وهي مهنة تحتاج إلي معرفة لثقافات القبائل الأفريقية، وتفهُّم فولكلور البلاد التي تريد التعبير عنها، مع فنية مدروسة، وحرفية عالية في القص والتشكيل، وتجسيم الشخصيات، وحفظ الخشب من عوامل التلف، ودهانه، وجعله قابلاً للاقتناء في بيوت الميسورين الأفارقة، لتعيش روحها معهم بصفتها رصَداً لهم، وطوطماً تحميهم من الأرواح الشريرة، والأشباح الهائمة، وبعضها تُجسد لهم آلهتهم، فيعبدونها أو يَتيمّنون بها، وبعضهم يضعونها علي وجوههم في الحفلات الشعبية، وكذلك في الأفراح، وقد يستخدم بعضها في الأتراح أيضاً.. وأضافت أن معظم إنتاج هذه الأقنعة يكون للتصدير إلي بلاد الغرب، التي تحب فنون الأقنعة الأفريقية، إذ ترتبط عندهم بفنون التمثيل وبالشخصيات المسرحية.. تشدني معرفة ثقافة هذه الأقنعة وجو صناعتها أكثر من غيري من الزملاء، وذلك لشدة عشقي للمسرح، ولإيماني بأن وجه الإنسان ما هو إلا أحد الأقنعة البديلة التي يستخدمها، ولا يلبث أن يغير أقنعته التي يتقمصها في كل مناسبة..ولهذا فأنا أقتنيها وأجد أن رفوف مكتبتي تتزين بهذه المعلقات، التي أتخيلها تتحدث معي حيناً، وتستحضر لي عوالم الشخصيات التي أتخيلها، فتؤنس وحدتي، إذ ألتجيء إليها لتحميني من عالم متلاطم، يمور بالرعب من شرور الإنسان. ومما قالته أبيبة لنا نحن المتجمعين من بلاد الدنيا حول طاولة واسعة مشتركة تضُمّنا في سهرتنا عن العلاقات الاجتماعية هناك: »إن الرجال المقتدرين عندنا يتزوجون بكثير من النساء، إن استطاعوا تمويل حياة الزوجات وأولادهن.. وقد يتزوج شيخ القبيلة بعشرين امرأة أو أكثر..« وتابعت قولها وهي تراقب نظراتنا المستغربة ودهشتنا من هذه الزيجات: »وأما الطلاق عندنا فيتم بمجرد الهجر، ولا مانع أن يأتي رجل آخر ميسور الحال، ودون مراسم زواج، فيَلِمُّ المطلّقة، التي تُذبِّل عينيها أمامه، أو تتعلق به راغبة، أو تستسلم له، فتسير خلفه، لتصبح من أهل بيته!« وعندما تجرأتُ فسألتها عن وضعها الاجتماعي، قالت لنا إنها تعيش مع رجل يجمع خمس عشرة امرأة في بيته الكبير! وللخروج من ظلمة أدغال شلالات إفريقيا المتصحرة القاتلة، أُغيِّر الحديث ذا الشجون، فأسأل صديقي المهندس باتريك مجرد سؤال في مجال معرفة تفكير الآخر: ما رأيك في الرئيس الألماني؟ هل تؤيده أم تعارضه؟ طبعاً نحن في الوطن العربي في غياب الديمقراطية التي نقرأها في وسائل الإعلام، ولكننا لا نراها علي الأرض، ونظراً لأن لا أحد يستشيرنا في تعيين الحاكم الذي يَطُبُّ علينا كالقَدر المستعجل، ليتولي أمرنا، فكثيراً ما نسأل بعضنا بعضاً أثناء لقاءاتنا أو سهراتنا مثل هذه الأسئلة، ولكن باتريك يستغرب هذا السؤال، فيقول: »الرئيس رئيس! نحن ننتخبه بطريقة ديموقراطية، وما دام يمثل الأغلبية، فهو في محل الثقة، ومن ثم، فلا نتساءل حول تأييده أو معارضته، إلي أن يحين موعد الانتخابات القادمة، وعندها نستطيع أن ننجحه أو نسقطه، بصناديق الانتخاب!«