نتحلق كل يوم حول مائدة الطعام في حوالي الثالثة بعد الظهر.. أمي تحمل ما لذ وطاب من المطبخ إلي المائدة وعندما تكتمل الصحون تغرف الطعام في أطباقنا ونبدأ في الأكل. .لكل منا موقعه من المائدة، يجلس أبي علي رأسها، عن يساره أمي وعن يمينه أجلس أنا، يجلس إلي جواري أخي الأصغر وإلي جوار أمي أخي الأكبر. الأكل يوميا بالشوكة والسكين، ولكل واحد فوطة نظيفة من القطن يضعها علي ساقيه وعند الانتهاء من الطعام يعلقها علي مشجب قريبا من باب المطبخ.. أبي يصر علي استخدام الشوكة والسكين والفوطة وطبق لكل فرد ونصيب من الطعام يتم توزيعه بالتساوي علي الجميع. يتأمل الطبق برهة بعد اكتمال الغرف، أرز، خضار مطبوخ، سلاطة خضراء، قطعة متوسطة من اللحم وطبق صغير من الخبز البلدي المقمر مقطع أربعة أرباع متساوية. علي المائدة، ممنوع استخدام الأصابع في الأكل، ممنوع الكلام أثناء مضغ الطعام، يجب الأكل من مقدمة الطبق وليس من وسطه، ممنوع إصدار صوت أثناء احتساء الشوربة، ممنوع توسيخ المائدة حول الطبق بفتات الخبز أو حبات الأرز، ولو اتسخ الفم قليلا يجب مسحه بالفوطة.. أنبه أخواي إلي كلمات ينسيان النطق بها بعد طلب من نوعية "ممكن الملح"... أقول يجب أن تقول "من فضلك" وبعد تناول الملح يجب أن تقول "شكرا"... أتربص بهما وأذكرهما بما يجب أن يقولاه أو لا يقولاه فيغتاظ مني الكبير وينصاع الصغير راضيا، ويفرح أبي وأمي ويثنيان علي. بعد عشرين عاما أو يزيد، عندما أصبحت أما لولدين، ربيتهما بنفس الأسلوب الذي رباني به أبي، وكلما رأيتهما يحافظان علي النظافة أثناء الأكل أو سمعتهما يقولان شكرا أو من فضلك يا ماما في كل صغيرة وكبيرة، أتذكر أبي ويزداد امتناني له. في بيت أبي وأمي، علي مدار أكثر من عشرين عاما، كنا نتناول الغداء معا كل يوم، خمسة أفراد يجمع بينهم عرف واحد وقيم متفق عليها. وعندما ولدت أختي الصغيرة اكتمل عددنا وأصبحنا ستة، وتولينا جميعا تعليمها آداب المائدة. .كل يوم تقريبا بلا استثناء، كان أبي يكرر تعاليم المائدة علينا، بلا كلل، بلا هوادة، وبتصميم كان يزعجنا ويثيرنا ضده أحيانا.. كان يحرص علي تناول الغداء معنا، ويتناول العشاء وحده. لم نكن عائلة ثرية ولا أرستقراطية، لكننا تعلمنا آداب المائدة من أبي، وتعلمنا آداب التعامل الاجتماعي من أمي. .تربينا علي مبادئ الرفعة والأناقة في الملبس والمأكل دون أن يكون للمال القليل أو الكثير دور في تحديد تلك المبادئ ودون أدني تفسير ديني يضع الأدب في خانة الثواب والعقاب.. كثير من تلك الآداب الاجتماعية اختفي اليوم في الشرائح المتوسطة بما في ذلك الأكثر تدينا أو الأكثر ثراءً.. حل محلها الاستسهال والكسل وعدم الحرص علي النظافة والتطجين في الكلام أثناء الأكل والسرعة في التهام الطعام والمضغ كأن الواحد يأكل في آخر زاده! ناهيك عن اختفاء كلمة شكرا ومن فضلك من قاموس التعاملات اليومية. كانت ساعة الغداء ساعة مباركة بالنسبة لي لأني كنت أجلس إلي جوار أبي، ولأني كنت أسأله عن كتاب قرأته أو فيلم شاهدته وأستمع له يرد باهتمام واقتضاب علي أسئلتي البسيطة. مرة بعد أن قام الجميع ليغسلوا أيديهم سألته عن معني كلمة "اشتراكية".. كعادته كان ينتظر ليتأكد أننا غسلنا أيدينا بعد الأكل، وأن المائدة قد خلت من الصحون وبدأت أمي في تنظيف المفرش، لكي يقوم بدوره فيغسل يديه ثم يأوي إلي الفراش ويستمع لنشرة البي بي سي قبل القيلولة.. لم يشرح لي معني الكلمة، قال سأعطيك كتابا يجيب عن هذا السؤال اسمه "دليل المرأة الذكية". كنت في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من عمري، ولم أفهم الكثير من تحليلات برنارد شو ومقارناته، لكني فهمت مبادئ الفكر الاشتراكي واستمتعت بأسلوب شو الساخر استمتاعا كبيرا.. أدركت أن أبي ليس معلما أو مربيا بالمعني التقليدي، كان مرشدا وكان نموذجا في أناقة الروح والبدن احتذيته في كثير من شئون حياتي. في نفس تلك الفترة تقريبا قرأت للكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا روايتين من رواياته المترجمة أخذتهما من مكتبة أبي.. لم يمنعني أبي عن قراءة ما أحب ولم يوجهني في القراءة إلا نادرا، وعادة بعد سؤاله والإلحاح في السؤال.. ورغم شهرة ألبرتو مورافيا بكتابة الأدب الإيروتيكي أو الإباحي، إلا أن أبي لم يخف هذه الكتب بعيدا عن أيدينا ولم يمنعنا من قراءتها. .اليوم كثيرون يتخيلون أن المنع والحزم والتخويف أساس التربية السليمة، وبالذات فيما يخص الموضوعات المحرمة وعلي رأسها التربية الجنسية. .يتصورون أن أساس الأدب هو بث الرعب من الجنس الآخر ومن الرغبة الجنسية علي العموم في نفوس أبنائهم وبناتهم. هؤلاء الناس يقولون إن الأدب فضلوه علي العلم وينكرون أن العلم هو أساس الأدب.. فالجاهل انسان خانع، خائف، مغلوب علي أمره، سهل الانقياد، أول ما "تنكشه" تظهر شرور الدنيا تحت قناعه الكاذب المنافق. .أما العارف فقد اختار الأدب عن وعي، عن رغبة، عن اقتناع، عن علم بما له وما عليه، عن معرفة بتوقعات الآخرين وأشواقهم، وعن خبرة بما تحققه تلك المعرفة من سعادة له ولغيره. .في آداب المائدة والآداب العامة كان أبي يوجهنا ويرشدنا دون ترهيب، لذلك كنت ومازلت أهتدي بما علمني إياه عن قصد أو عن غير قصد في تربية الولدين اللذين لم يعرفا عن جدهما إلا القليل.. وربما يكون أهم ما تعلمته من أبي هو أن الأدب والعلم صنوان يرتقيان بالروح قبل البدن وأن الارتقاء بهما مطلب من مطالب النفس النبيلة التي لا يجب التهاون في السعي إليها بوازع من السمو والسلام الاجتماعي وليس بوازع من الخوف والورع.