"لماذا لم أكتب شعرا عن أمل دنقل؟"، يطرح الشاعر الراحل حلمي سالم هذا السؤال علي نفسه، أثناء تحضيره كتاب "عم صباحا أيها الصقر المجنح" الذي صدر عن المجلس الأعلي للثقافة محتويا علي القصائد التي كتبها الشعراء في رثاء أمل دنقل بعد رحيله الأليم في مايو 1983، ثم يجيب بأن السبب هو خوفه من "السرطان" الذي انتشر في الهواء، والذي أخذ منه مجموعة من أعز الناس جعله يجفل من رثاء دنقل، حتي لا يكون في مواجهة مباشرة مع السرطان. ما خاف منه سالم تحقق، فالحذر لا يمنع القدر، حيث رحل مريضا بالسرطان أيضا، سرطان الرئة. لكن ما يجمع دنقل وسالم ليس المرض فقط، ولا أن كليهما كتب ديوانا عن تلك التجربة، حيث كتب دنقل "أوراق الغرفة 8"، وكتب سالم "معجزة التنفس"، بل أن كلايهما يدخلان في جوقة الشعراء الخوارج، والمقاتلين، وأصحاب القضية. يرفض الكثيرون من النقاد وجود الأيديولوجيا في الأدب، ويري آخرون أن الانخراط في العمل السياسي التنظيمي قد يضر المبدع، غير أن حلمي سالم، استطاع أن يحطم هذه التابوهات التي وضعها النقاد، ليكتب قصيدته، التي تعبر عن موقفه الأيديولوجي، التي يتخلي فيها عن خطابه السياسي، ويتمسك فقط بموقف المبدع الذي يري العالم يتعرض للتشويه، فيحاول تجميله بقصيدة. بالنسبة لي، أؤمن أنه لا فن بلا أيديولوجيا، وأعتقد أن حلمي سالم واحد من أولئك الذين يعبرون عن سلامة هذا الاعتقاد عندي، حيث استطاع الحفاظ علي ذلك الخط الرفيع ما بين الاثنين، وهو يتنقل ما بين حصار بيروت أوائل الثمانينيات حين انضم إلي المقاومة الفلسطينية هناك، أو في غرفته الزجاجية في حزب التجمع، مدافعا عن يساريته، ليحافظ في هذا كله، علي شاعرية طازجة مختلفة، وموقف سياسي واضح، من ديوان إلي الآخر، بل فعل ما وصف به دنقل في مقال له من أنه يقيم تضافرا مركبا بين الموقف الفكري والتشكيل الجمالي. حلمي سالم هو شاعر التفاصيل الصغيرة، شاعر الاحتفاء بالحياة، وتدوينها، في فقه اللذة، والواحد الواحدة، ومدائح جلطة المخ، والشاعر والشيخ، وسيرة بيروت، وهو في كل هذا يجمع بين الأيديولوجي والشاعر، يلتقط الفن من كل تفاصيل الحياة، من الحب والسجن والمرض، ويصوغه شعرا هو المدهش، الذي يحافظ علي صوره طازجة حتي السطر الأخير، سواء كان يكتب قصيدته التفعيلية أو النثرية. حلمي سالم واحد ممن صنعوا شعرية جيل السبعينيات المختلفة عما قبلها وما بعدها، مع رفاق دربه جمال القصاص، وعبد المنعم رمضان ومحمد سليمان، وحسن طلب، وغيرهم، ليظل هذا الجيل محصورا طوال سنوات بين دورين "الظالم والمظلوم". البعض يراه ظالما لأنه نقل الشعرية بعيدا عن المتلقي العادي، مع أن المتلقي العادي لا يقرأ الشعر منذ عقود طويلة، ومظلوما لأنه ابن النكسة التي حاصرته، وابن عصر السادات الذي همش الثقافة، وابن عصر الانفتاح الاقتصادي الذي أعلي آليات السوق علي الاهتمام بالصورة الشعرية، والقصيدة التي تصارع التشوه المجتمعي. لكن حلمي سالم ورفاق دربه، استطاعوا الصمود في وجه هذا، وحافظوا علي فرادة قصيدتهم، وتميز نصوصهم، ليصنعوا، ما يعتبره البعض جيلا شعريا، وما أعتبره مدرسة شعرية، تقوم علي الاهتمام بالتجريب والمغامرة، وتكثيف الصورة، والمغايرة. كان حلمي سالم شاعرا مقاتلا، ليس لأنه ذو موقف أيديولوجي، بل لأنه كان يحب الاشتباك مع الحياة، وينتصر في النهاية بقصيدة أو ديوان جديد، كما فعل في أزمة "شرفة ليلي مراد"، وحاول الانتصار علي المرض بديوانين "مدائح جلطة المخ"، وديوانه الأخير "معجزة التنفس". كان حلمي سالم شاعرا غزير الإنتاج، ربما لأنه كان يري كل ما حوله شعرا، ويري أن الحل في القصيدة، والقصيدة واحدة، فكان يصوغ كل ما يمر به شعرا، ورغم رحيله، إلا أنه سيظل أيقونة خاصة تدل علي سلامة ارتباط الشعر بالأيديولوجيا، علي أهمية ما قدمته جماعة "إضاءة" للشعرية العربية، علي أن الشاعر لا يموت، ومن قال أن الشاعر يموت.