لم يتسنَّ للشاعر المصري حلمي سالم أن يصدر ديوانه الأخير الذي كان كتبه للتوّ علي سرير المرض، وقد سماه »معجزة التنفس«، لكنه مات مطمئناً بعدما نجح في جعل مرضه مادة شعرية، علي عادته في مواجهة الأحداث التي تعصف به، فهو عندما أصيب قبل أعوام بجلطة في الرأس، كتب عن هذه »التجربة« ديواناً بكامله سماه »مدائح جلطة المخ« (2006). أما هذه المرة، فلم يستطع أن ينتصر علي مرض السرطان الذي التهم قطعة من رئته، ولا علي مرض الكلي، فهما تآمرا عليه معاً وكانت الغلبة لهما، مع أن حلمي ترصد لهما شعرياً أو سبقهما، فكتب ديوانه الأخير قبل أن يغمض عينيه الي الأبد. كان حلمي سالم علي سباق محموم مع الأحداث الصغيرة والكبيرة، الأحداث الشخصية والعامة، لا يدعها تمر من غير أن يفيد منها شعرياً، أو أن »يشعرنها«، وكان دوماً علي أهبة ليتأثر بها ويعيشها، بغية جعلها مناسبة شعرية بامتياز، مناسبة أو موضوعاً، شرط ألا يخلوَا مِن بُعد ذاتي و »دمغة« شخصية، فهذا الشاعر كان يجيد ببراعة الانتقالَ من العام الي الخاص، والعكس، حتي ليكاد يصبح الحدث العام حدثاً شخصياً، والحدث الخاص حدثاً عاماً. إنها طبيعة هذا الشاعر، بل هي خصاله وطبائعه التي جعلته يختلف عن شعراء جيله، جيل «إضاءة 77»، جيل السبعينيات، الذي كان واحداً من رواده البارزين. لم يستطع حلمي أن يحصر نفسه في أسر مبدأ الأجيال، فاختار «الخضرمة»، منتمياً في الحين عينه الي الأجيال التي أعقبت جيل السبعينيات، وقد وجد فيه الشعراء اللاحقون صديقاً ورفيقاً علي رغم تأثرهم به، وكان هو منفتحاً علي الأجيال هذه انفتاحَه علي سائر المدارس والتيارات والمذاهب، قديماً وحديثاً… كان حلمي سالم شاعر المغامرة، في الشعر، كما في الحياة، لم يكن يحسن له أن يثبت أو يستقر لا علي مثال أو نموذج، ولا في حياة أو نمط عيش. كان يعيش الشعر مثلما يكتبه، وكان السأم سرعان ما يأخذ به فيخترق الحدود بحثاً عن آفاق أخري. كان يتجدد باستمرار، ينفض ما تراكم، وينقلب علي نفسه متجهاً نحو فضاء المصادفة، منتظراً ما قد يلوح أو يحصل. ومَن يقرأ دواوين حلمي سالم يدرك حال التعدد، أو التنوع الذي يهيمن علي شعره وعلي مساره الشعري، فهو طالما نبذ الإقامة داخل شرنقة واحدة، شعراً ولغة، وكثيراً ما رفض تكرار نفسه ولعبته الشعرية وتقنياته اللغوية وحيله الأسلوبية، وبدا كل ديوان لديه تجربةً بذاتها، لغة واختباراً حياتياً وروحياً و »عاطفياً«… ظل حلمي رومنطيقياً مثلما استهل »حرفته« الشعرية في مطلع الفتوة، لكنه جرد هذه الرومنطيقية من لغتها وموقفها وحافظ علي جوهرها، زارعاً إياه في صميم التجريب الحداثي. وحتي في أوج واقعيته الشعرية واحتفائه بالعالم والبشر والأشياء، كان رومنطيقياً. انها الذات التي تطغي في الختام مهما ارتفعت »الأنا« وغلب »الموضوع«. وقارئ هذا الشاعر، الذي هو بحق نسيج وحده، كما يقال، يحار إزاءه، وكيف كان قادراً علي أن يجمع المتناقضات ويؤالف بينها، شاعر واقعي وسوريالي وصوفي ومادي وملتزم… شاعر الغناء المجروح والصراخ الأليم والألفة والطرافة والسخرية… شاعر الحب المثالي والأروسي، شاعر المغامرات العشقية التي لم يكن يهمه أن يخرج منها خاسراً. في العام 2007، مُنعت قصيدة حلمي سالم »شرفة ليلي مراد«، واتُّهم ب »الزندقة والإلحاد« وأحيل الي المحاكمة، وكاد يجازي عليها، لكنه بدا شرساً في دفاعه عن نفسه وعن هذه القصيدة »الملعونة«، خاض معركته من دون مؤازرة كبيرة. وكانت مجلة »إبداع« نفسها، التي نشرت القصيدة، تبرأت منها ومنه بصلافة ووقاحة، وارتفعت أصواتٌ تدين القصيدة، آخذة عليها ضعفها وركاكتها. وجد حلمي نفسه حينذاك شبه وحيد، ما خلا بضعة أصدقاء وقفوا إلي جانبه، ولعله كان علي قناعة أن هذه القصيدة ليست من أقوي صنيعه، وأنها لا تخلو من ضعف… لكنه استهجن، مثل الكثيرين، الحملة النقدية التي قامت ضدها في تلك اللحظة الحرجة. وهو أصلاً لم يوفر نفسه من النقد الشخصي، وكان يقول إن الشاعر لا بد أن يدفع »ضريبة« استجابته للحدث السياسي وتجاوبه معه. وفي رأيه أن علي الشاعر أن يخرج صارخاً حيال الأحداث الجسام التي تهز الواقع. كان يسمح لنفسه في مثل هذه »المناسبات« الرهيبة أن يستغني عن جماليات الشعر كي يشارك في الحدث ويكون في صميمه، وليس علي هامشه. وهكذا، لم يتورع مثلاً عن كتابة قصيدة عن »العسكر« عقب اندلاع الثورة المصرية، وكتب أيضاً قصيدة عن »الميدان«… وجمع قصائده »الثورية« كلها في ديوان سماه »ارفع رأسك عالياً«… كان حلمي سالم، الشاعر الحديث، يؤمن برسالة »تنويرية« يمكن الشعر أن يؤديها، مثل المقالة والدراسة، وقد أصر علي هذا الدور التنويري، لا سيما في مقالاته الصحافية وكتبه، ومنها علي سبيل المثل »ثقافة كاتم الصوت« و »التصويب علي الدماغ«… وهذه المهمة التنويرية عاشها حلمي عن كثب في مساره النضالي والحزبي اليساري، وفي انخراطه في الصحافة الطليعية، لا سيما في مجلة »أدب ونقد«، وانحيازه الدائم الي الناس البسطاء والمهمشين والفقراء. من أين كان يأتي حلمي سالم بحبه للحياة وتفاؤله وحماسته؟ كان حتي في أوج ألمه وحزنه وفقره يبدو سعيداً، سعيداً ومتفائلاً بأن الغد سيكون أفضل. لكن مرضيه الأخيرين انتصرا عليه، انتصرا علي جسده ولكن ليس علي روحه المشرقة.